Author

تصحيح أسعار الأراضي والعقارات .. ظاهرة إيجابية

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

امتدادا للحديث عن بدء دخول أسواق الإسكان والعقار عموما حول العالم موجة تصحيحية لأسعارها المتضخمة، التي شهدت ارتفاعات قياسية لفترة وصلت إلى نحو 145 في المائة خلال أقل من عقد زمني، كانت قد بدأت مسارها الصاعد بعد انتهاء تصحيح أسعارها السوقية الذي نتج عن تفجر الأزمة المالية العالمية 2008، وصلت أكبر نسب تصحيح الأسعار آنذاك إلى أعلى من 55 في المائة حسبما أظهرته بيانات بنك التسويات الدولية BIS، حيث وصلت إلى 39 في المائة في الولايات المتحدة، وإلى نحو 30 في المائة في إسبانيا، وإلى نحو 24 في المائة في المملكة المتحدة، وإلى 36 في المائة في روسيا، وإلى نحو 27 في المائة سنغافورة، ووصلت في منطقة دول الخليج العربية إلى نحو 39.3 في المائة.
كما سبقت الإشارة إليه في المقال السابق: هل بدأ انفجار الفقاعة العقارية العالمية؟، فإن الفقاعة العقارية العالمية التي تشكلت خلال أقل من عقد من الزمن فيما بعد الأزمة المالية العالمية 2008، جاءت نتيجة الاندفاع الكبير وغير المسبوق للبنوك المركزية نحو دعم اقتصادها وأسواقها للخروج من تداعيات تلك الأزمة العالمية، من خلال ضخ عشرات التريليونات من الدولارات "التيسير الكمي" طوال تلك الفترة، وخفض معدلات الفائدة، ما نتجت عنه ارتفاعات قياسية في جميع الأسواق المالية عموما، ولم يقف الأمر عند أسواق العقار، وزادت عمليات التحفيز والدعم بصورة أكبر إبان تفشي الجائحة العالمية لكوفيد - 19، بمزيد من التيسير الكمي ومزيد من خفض معدلات الفائدة، لتندفع الأسواق عموما بما فيها العقارات نحو مزيد من الارتفاع وتسجيل مستويات قياسية غير مسبوقة، إلى أن جاءت ساعة المواجهة "المتأخرة" بين التضخم الأعلى ارتفاعا خلال أكثر من أربعة عقود من الزمن من جانب، من جانب آخر البنوك المركزية حول العالم بقيادة الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نهاية الربع الأول 2022، حيث بدأت الأخيرة في اتخاذ إجراءات وتدابير متسارعة قامت على الرفع المطرد لمعدل الفائدة وتجفيف الأسواق من السيولة النقدية، لتبدأ معها الاضطرابات الحادة في الأسواق عموما، وفي مرحلة متأخرة كان لا بد أن تتأثر سلبيا أسواق العقارات والمساكن، وهو ما بدأ فعليا بالظهور مع صدور بيانات ومؤشرات الربع الأخير من العام الماضي، ولا تزال تتأكد فترة بعد فترة منذ مطلع العام الجاري، تجلت في التراجعات الحادة لمبيعات العقارات وبدأت الأسعار في التصحيح لأول مرة منذ نحو عقد من الزمن في أغلب الأسواق وفق بيانات بنك التسويات الدولية BIS.
محليا، لم تبتعد السوق العقارية المحلية عن تلك المسارات في الأسواق الخارجية أغلب الفترة الماضية، باستثناء ركودها وتصحيحها للأسعار الذي شهدته خلال الفترة 2015 - 2018، سرعان ما انطلقت بالانتعاش وتسجيل ارتفاعات قياسية في الأسعار مع مطلع 2019 حتى نهاية النصف الأول من العام الماضي، مدفوعة ببدء برنامج الدعم السكني الذي أسهم في ضخ نحو 520 مليار ريال كقروض عقارية للأفراد، واقترن بانخفاض معدلات الفائدة إلى أدنى مستوياتها التاريخية طوال الفترة، انتهت إلى تسجيل متوسطات أسعار الأراضي والعقارات السكنية أعلى مستوياتها التاريخية بحلول منتصف 2022، ومع وصول الأسعار السوقية إلى مستويات قياسية فاقت قدرة أغلب المستهلكين، ولحاق البنك المركزي السعودي بركب البنوك المركزية "الاحتياطي الفيدرالي تحديدا" في رفع معدل الفائدة، دخلت السوق العقارية المحلية في ركود لا يزال قائما حتى تاريخه، وتحولت أوضاع السوق من التأثر الإيجابي بتوافر الائتمان وانخفاض الفائدة، إلى حال مناقضة مختلفة إلى حد بعيد جدا عما شهدته قبل منتصف 2022، وازدادت الضغوط عليها مع مطلع العام الجاري ببدء العمل بالمصفوفة الجديدة للدعم السكني، التي قلصته بنسب راوحت بين 70 و80 المائة، ما أثر بدوره بدرجة كبيرة في تدفقات السيولة إلى السوق، عدا ارتفاع تكلفتها "الرهن العقاري" الناتج عن الارتفاع المطرد لمعدل الفائدة، واكتملت الضغوط السعرية مع القرارات السامية بضخ عشرات الملايين من الأمتار من الأراضي السكنية في جانب العرض، وزيادة فاعلية نظام رسوم الأراضي البيضاء وتسريع العمل ببقية مراحله التنفيذية التالية.
يشكل المشهد الراهن للسوق العقارية التي تكاد تنهي شهرها العاشر على التوالي من الركود، جزءا رئيسا من المفهوم الاقتصادي والمالي بالدرجة الأولى، فكما تأثرت إيجابيا بكثير من العوامل الاقتصادية والمالية التي حفزت بصورة قياسية جانب الطلب فيها خلال الفترة 2019 - 2022، وما ترتب عليه من ارتفاعات قياسية في مستويات الأسعار طوال تلك الفترة، فمن المتوقع أن تتأثر عكسيا بانتفاء أو تغير اتجاهات العوامل التي حفزتها سابقا، وهو ما بدأ ظهوره فعليا على نشاط السوق منذ مطلع النصف الثاني من العام الماضي، بتراجعاته المستمرة على مستوى قيم الصفقات وحجم المبيعات، وخضوع السوق لحال من الركود كما تشهده خلال الفترة الراهنة منذ نحو عشرة أشهر متتالية، التي عادة ما تليها في فترات تالية ضغوطا أكبر على مستويات الأسعار المتضخمة، وهو الأمر الذي أصبح مستهدفا من قبل الأجهزة التنفيذية القائمة على السوق بالتزامن مع اختلاف اتجاه العوامل الاقتصادية والمالية، وهو الأمر الذي سيشكل في نهاية رحلته أمرا إيجابيا للتنمية والاقتصاد الوطني والمجتمع على حد سواء، ويسهم في الأجلين المتوسط والطويل في تحفيز القطاع العقاري تحديدا، والاقتصاد الوطني عموما، الذي يجب النظر إليه من خلال إطار أوسع وأعم يتجاوز النظرة الضيقة للمتاجرين والمضاربين في السوق العقارية، وأن استقرار الأسعار عند مستويات عادلة من شأنه أن يلبي متطلبات النمو الاقتصادي المستدام، ويحفز القطاع الخاص نحو مزيد من التوسع والتوظيف، ويسهم أيضا في استقرار الأوضاع المعيشية لأفراد المجتمع، عدا أنه سيسهم في خفض مستويات المخاطرة المقترنة بالقطاع التمويلي في الأجلين المتوسط والطويل، ويقلص من حالات التعثر عن سداد الالتزامات على المقترضين، رغم ضغوطه التي قد تظهر في الأجل القصير، ستقابلها متانة قوية للبنوك ومؤسسات التمويل، تمنحها القدرة على امتصاص أي صدمات محتملة في هذا الجانب.

إنشرها