حربان مستعرتان في العالم .. أيهما نراقب؟

رحى الحرب في أوروبا تدور وهي تطحن دون رحمة البشر والمال والعتاد والعدة لنحو 14 شهرا حتى الآن. وتحدثنا كثيرا عن هذه الحرب التي شبهها أحد المحللين بكدسين من قوالب الثلج في لهيب الصيف، كلما ذاب قالب في أحد الكدسين كان على أصحابه التعويض عنه. والتعويض على قدم ساق، لكن ذوبان قوالب الثلج من الحدة في مكان حتى إن مصانع السلاح بدأت تتململ حيث لم يعد باستطاعتها تلبية الطلبات.
والرحى لن تتوقف عن الدوران، طالما في إمكان المتحاربين جلب قوالب ثلج جديدة لكي تحل محل التي تذيبها أشعة الشمس اللاهبة. اللجوء إلى الاستعارة والمجاز لتوصيف الحرب المدمرة في أوكرانيا لعمري فيه قدر كبير من التوفيق.
بيد أنني أرى أنه لم يدر في خلد المحلل هذا أن هناك حربا ضروسا أخرى، قد يتجنبها الإعلام الغربي لأسباب غير معروفة، لكن سيكون لمآلاتها وقع سيغير وجه العالم. وأين هي ساحة هذه الحرب التي برزت للعلن بعد شباط (فبراير) في العام الماضي عندما شنت روسيا حربها الحالية ضد أوكرانيا؟ ساحتها واسعة لكن مركزها الشرق الأوسط، وقد لا يعرف كثيرون أن المملكة محورها.
لقد عاش العالم نحو 50 عاما تحت هيمنة الولايات المتحدة، ليس خشية من قوتها العسكرية التي لا تضاهى، بل من هيمنة عملتها، الدولار، الذي كان، وإلى حد ما، لا يزال أفتك سلاح عرفه التاريخ.
بدلا من حكم العالم عسكريا، عمدت الولايات المتحدة على دولرة العالم، حيث صارالكل مجبرا على البيع والشراء بالدولار، والكل تقريبا لا بد أن قرأ أو سمع عن المصطلح الشائع "البترودولار"، بمعنى أن النفط، أهم سلعة استراتيجية في العالم، لا يباع ولا يشترى إلا بالدولار. وصار الدولار عملة الاحتياط والأرصدة والصناديق السيادية في العالم دون منازع، رغم أن الورقة الخضراء هذه لم تعد على ارتباط بأي سلعة منذ أن فك ارتباطها بالذهب قبل نحو 50 عاما.
وربط العالم، أو أغلب العالم، عملاته المحلية بالدولار، بينما الدولار لم يكن مرتبطا بأي شيء ولا يزال، بمعنى آخر أن الولايات المتحدة في إمكانها أن تصدر من الدولار ما تشاء وفي أي وقت تشاء دون أي تبعات.
العملة في أبسط تعريفها هي وثيقة للتداول ويقابلها ثمن. كل من اشترى ويشتري الدولار يدفع أو يحصل على ثمن، إلا الولايات المتحدة التي تحصل "تطبع" كميات مهولة من الدولار دون أن تدفع أي ثمن وتبيعه لقاء ثمن.
ومنحها الدولار، الذي تحصل عليه دون مقابل، ميزة تخفق الجيوش الجرارة في جلبها مهما بلغت من قوة ومنعة، وهي خاصية الهيمنة. بوساطة الدولار هيمنت أمريكا على الاقتصاد في العالم، ومن ثم أخذت تمارسه سلاحا سياسيا استراتيجيا في وجه مناهضي استراتيجيتها.
لا غرو أن ترتعد فرائص أي دولة، إن هددتها أمريكا بفرض حظر لوصولها إلى الدولار، أو ما تملكه في البنوك من أرصدة أو أصول مقيمة بالدولار.
ولأن الدولار، الذي لا يكلف أمريكا الحصول عليه أي شيء، هو الوسيلة الوحيدة تقريبا التي تساعد الدول على اكتناز المدخرات، صار كل من له رصيد أو صندوق سيادي مقيم بالدولار -وأغلبها كذلك- رهينة لهيمنة سلاح الورقة الخضراء، السلاح الذي لا نظير له لدى أي دولة أخرى في العالم.
لكن القبضة التي تمسك بالدولار أخذت تهتز بعض الشيء، بعد أن تيقن العالم، وعلى الخصوص الدول القوية فيه، مثل: روسيا والصين والبرازيل والهند ودول أخرى كثيرة، أن أمريكا تحصل على الدولار بالمجان، رغم ذلك تستخدمه كأداة للهيمنة على العالم.
وكانت الحرب في أوروبا درسا بليغا، ولا سيما عندما جمدت أمريكا وشركاؤها الأرصدة الروسية البالغة نحو 300 مليار دولار في بنوكها، وأبدت استعدادا إلى مصادرتها.
والتقطت الصين وشركاؤها في منظمة بريكس "الصين وروسيا والبرازيل والهند وجنوب إفريقيا" ودول أخرى عديدة الرسالة، ومفادها أن أرصدة الدولار لم تعد آمنة.
من هنا انطلقت حرب أخرى موازية للحرب المستعرة في أوروبا. هذه الحرب قد لا يمنحها الإعلام حقها، لكن ستكون لمآلاتها تبعات ستغير وجه العالم، وهي أكثر مصيرية من الحرب في أوكرانيا.
هناك حرب على إزاحة الدولار عن عرشه، أي إيجاد عملة بديلة أو مقاصة تجارية نظيرة لدور الورقة الخضراء في التجارة العالمية والاحتياطيات النقدية، تتساوى الدول في امتيازات الحصول عليها، وامتيازات الحصول على ثمن لقاء بيعها. هناك تقدم بارز حصل في السير على هذا الطريق منذ نشوب الحرب في أوكرانيا في شباط (فبراير) من العام الماضي. وما دورالشرق الأوسط، يا ترى؟ للشرق الأوسط ودول الخليج، وعلى رأسها المملكة، دور محوري لأهمية الصناديق السيادية التي تملكها، وكذلك ما يختزنه باطن أراضيها من الذهب الأسود، وسنتطرق إلى ذلك في مقال مقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي