Author

رمضان ما بين الصفاء والجدل

|

يبدأ معنا الشهر الفضيل وكل مستعد له بما يراه فيه، دينيا وروحيا وماديا. تدوم في هذا الشهر الفضائل والخصائص الربانية وتتكرر فيه العادات البشرية المختلفة، حسب الثقافة والمكان. ومما يتكرر فيه الجدل المستمر حول بعض الموضوعات المهمة. قد لا تصبح مهمة إذا تعاملنا معها بتلقائية، وقد تكون غير مهمة من الأساس عند البعض. من هذه الموضوعات إعلان دخول الشهر ورؤية الهلال وهذا أمر قل الجدل حوله في الأعوام الأخيرة. ومن هذه الموضوعات الدراسة في رمضان، وهل يجب أن تكون هناك مواءمة جذرية بجعلها عن بعد أو تقليل ساعات الدوام أو حتى إلغائها بالكامل، وهذا ليس كلام الطلاب المتعذرين فقط، بل حتى بعض المثقفين وأصحاب الرأي يطرحون مثل هذه الآراء.
ومثل الدراسة تجد موضوع أوقات الدوام وعدد ساعات العمل، فهناك من يطالب بالمرونة، وهناك من يرى الجدول المتأخر المتاخم لوقت الإفطار، وآخر يراه مبكرا يشطب فيه نهاره عند انتصافه ويرجع إلى النوم والراحة. ومن الموضوعات التي تناقش في العادة إلى حد يمكن الاندماج، ما يدخل في دائرة النشاط الاجتماعي والترفيهي، فهناك من يرى أن الشهر يحفز التعبد لكن يسمح بالرمضانيات، دون مبالغات. وهناك من يراه شهر الفن والترفيه! من أشهر ما يثير الجدل في رمضان المسلسلات الرمضانية، حتى لمن لا يتابعها، ربما لأن هناك منها ما يقترب من الخطوط الحمراء أو ما يخرج عن المألوف. ومثل ذلك موسم اللقاءات المرئية والمسموعة والحوارات التي في الأغلب ما تمس شيئا يثير الجدل فتحرك الشجون وتنشط النقاشات في المجالس و"المجموعات".
وتنشط على غير العادة موضوعات العادات الاستهلاكية والتسوق والجري خلف المآكل والملبس في نقد ذاتي جماعي للسلوكيات التي تتعاظم في هذا الشهر، يستمر النقد وتستمر السلوكيات. ومن الاستهلاك نقيم سلوكنا المالي، فيتحول الجدل هنا إلى جوانب مالية واستثمارية شخصية، ولربما اقتصادية محلية كذلك. ستجد من يقيم السلوك المالي الشخصي لغيره، هذا مبذر وهذا بخيل. وستجد من يربط الأحداث ذاتها بجشع التجار وتصريف المخزون وازدهار الغش والاحتيال.
ولو نظرنا إلى أهمية هذه الموضوعات ـ وغيرها مما يشابهها ـ لوجدنا الحديث حولها يحتمل الوجاهة ويستحق الأهمية، فهي موضوعات حياتية ترتبط بيومياتنا وأفكارنا وسلوكياتنا بأكثر من شكل. زيادة معدل الجدل حولها في هذا الشهر طبيعي، فهو ذروة الأشهر التي تنكسر فيه الرتابة وتتعاظم فيه الفرص وتتجدد فيه الأولويات. تتغير الظروف ويزداد التركيز العاطفي المؤقت في رمضان، ومع التركيز على بعض الخصائص التي ينفرد بها الشهر مع فرصة التواصل الاجتماعي المختلفة تنتج لنا هذه الاهتمامات المتكررة والموضوعات الشيقة والمثيرة. لكن لهذه السمات نفسها أثرا آخر جوهريا قابلا للاستغلال بشكل أفضل، وهو الصفاء الذي يمنحنا إياه هذا الشهر الفضيل.
معادلة الصفاء في رمضان ليست بعيدة عن معادلة الجدل، فالصفاء أمر يحتمل الوجاهة ويستحق الأهمية، ويتبع ذروة المشاعر والتركيز، ويستفيد من تغيير الرتابة وتجديد الظروف، يتميز بأنه فردي، ويمتزج مع السمة الأساسية للشهر "الروحانية والعبادة" بشكل استثنائي. وهو كذلك مؤثر ومقيم ومجدد للسلوك الفردي في الجوانب الأخرى، ماليا وعمليا واجتماعيا. هناك من يستفيد من الشهر في الكتابة أو القراءة أو تطوير نفسه أو الاهتمام بهواية أو تجديد سنته وتغيير سلوكه. وتماما مثل التفاعل مع الجدليات، هناك من يتطرف في استلهام الصفاء وممارسته، فيبتعد عن المشوشات حتى ينقطع عن الآخرين، وهناك يستمتع بمشاهدة غيره ممن يجيدون ذلك، تماما مثل من يحضر الجدل بالاستماع وليس بالمشاركة. وهكذا، يظل الفرد بطبيعته في تردد بين الصفاء والجدل، وله اختيار الاقتراب مما يحب.

إنشرها