Author

هل «الفيدرالي» في طريق ارتكاب خطئه الثالث؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

اصطدم "الاحتياطي الفيدرالي" في طريقه لمحاربة التضخم، بسقوط مفاجئ للنظام المالي تضمن انهيار بنوك واقتراب أخرى من الانهيار، ليسارع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، واحتواء الأزمة قبل أن تتفاقم بتداعياتها الخطرة إلى زعزعة النظام والاقتصاد والأسواق، وقبل أن تمتد آثارها الوخيمة إلى الاقتصاد العالمي والأسواق الخارجية. منعا لتكرار الأزمة المالية العالمية 2008، بدأ "الاحتياطي الفيدرالي" بإقراض البنوك الأمريكية نحو 164.8 مليار دولار خلال الأسبوع الماضي على أعقاب انهيار "سيليكون فالي بنك"، من خلال برنامج "نافذة الخصم" التي تمثل الأداة التقليدية للاحتياطي الفيدرالي، ويعمل ذلك البرنامج على إمداد البنوك بالسيولة قصيرة الأجل، ويعد مبلغا قياسيا تجاوزت نسبة نموه مقارنة بما تم إقراضه للبنوك خلال الأسبوع الأسبق 3.498 في المائة "نحو 4.6 مليار دولار"، كما جاء حتى أكبر من الحجم الأعلى سابقا لاقتراض البنوك من "الاحتياطي الفيدرالي" إبان الأزمة المالية العالمية 2008 البالغ 111 مليار دولار بـ48.5 في المائة.
أوضح أحدث بيانات الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي، ارتفاع أصوله خلال الأسبوع الماضي إلى أعلى من 8.6 تريليون دولار، بزيادة قياسية كانت الأعلى منذ الجائحة العالمية كوفيد - 19 وصلت إلى 297 مليار دولار، وهو الاتجاه المعاكس للتشديد الكمي الذي بدأه "الاحتياطي الفيدرالي" منذ نيسان (أبريل) 2022 للتصدي للتضخم، مؤكدا عودة "الفيدرالي" إلى التيسير الكمي خلال أسبوع واحد فقط بما نسبته 47.4 في المائة من التشديد الكمي خلال الفترة "626 مليار دولار".
تؤكد المرحلة الراهنة أن "الاحتياطي الفيدرالي" يقف أمام مفترق وعر جدا للطرق، الذي سيكون على حالة من التردد في اجتماع مجلسه بعد أقل من يومين، لاتخاذ قراره تجاه معدل الفائدة، هل سيقوم برفعه 25 نقطة أساس على أكبر تقدير، وفقا لتصريحات سابقة لرئيسه جيروم باول، بأن عمليات رفع الفائدة ستستمر بأكثر من التوقعات؟ أو هل سيعمل على تثبيتها عند مستوياتها الراهنة نفسها؟ ولا تتجاوز هذه التساؤلات مجرد كونها ضمن تساؤلات أكثر وأوسع في ظل المستجدات المفاجئة للسلطات الأمريكية عموما وللاحتياطي الفيدرالي خصوصا، على الرغم من تصريحات رئيس مجلسه السابقة في نهاية العام الماضي، بقوله "إنه على استعداد لأن يعاني الاقتصاد بعض الألم، من أجل خفض التضخم الذي وصل قريبا من أعلى مستوياته خلال 40 عاما مضى، وإنه ينبغي أن يكون ذلك أكثر وضوحا في التوقعات الجديدة"، وإن "المعدلات مرتفعة الفائدة ضرورية لفترة أطول، حتى مع وجود مؤشرات على ضعف الاقتصاد، وكل ذلك من أجل دفع الأسعار المتضخمة نحو الانخفاض، ولا يريد أن يرتكب خطأ من خلال التراجع قبل الأوان في خضم المواجهة الشديدة الآن مع التضخم!"، ولا يريد تكرار مثل هذا الخطأ "الذي ارتكب في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي، وتسبب في تعزيز التضخم المرتفع باستمرار، الذي دفع بدوره بالبنك الاحتياطي الفيدرالي، إلى إحداث ركود حاد لإعادته إلى الانخفاض".
أمام صدمة المستجدات المفاجئة الآن، هل تغيرت هذه الرؤية لدى مجلس الاحتياطي الفيدرالي؟ تثبت التطورات الأخيرة خلال الأسبوع الماضي، أنها فعلا تغيرت! وما تخلي "الفيدرالي" عما يقارب نصف تشديده الكمي طوال عام مضى خلال أسبوع واحد فقط إلا دليل واضح على هذا التغير، ولن يلغي هذا التغير في الرؤية السابقة للاحتياطي الفيدرالي تجاه التضخم حتى إن قام برفع معدل الفائدة المتوقع بعد يومين! لا أحد يمكن له الجزم بمدى صحة أو خطأ ردة فعل السلطات الأمريكية وعلى رأسها "الاحتياطي الفيدرالي" تجاه المفاجآت الصادمة الأخيرة، وهو الأمر الذي تناثر على أثره كثير من الآراء المتباينة من كل حدب وصوب، ولن تتضح الصورة كاملة إلا بعد فترة من الزمن، يمكن في حينها الوقوف على تقييم أكثر وضوحا لما يجري الآن في الاقتصاد الأمريكي بمختلف قطاعاته وأسواقه، كما أن المشهد لم ينته فصوله بعد، فما زال للقصة بقايا مفصلية متعددة الاتجاهات، منها ما يتعلق بالصدمة الراهنة التي تعانيها البنوك الأمريكية، وهل تلاشت احتمالات انهيارات بعضها أم لا؟ وهل ستنجح مضخات التيسير الكمي في تعزيز مراكزها المالية وودائعها خصوصا أمام المودعين؟ ومنها ما يتعلق بما سيطرأ على التضخم خلال الأشهر المقبلة في ظل هذه المستويات القياسية من التيسير الكمي الذي عاد مجددا بأعلى مما شهدته السوق حتى إبان الأزمة المالية العالمية 2008؟ وما انعكاسات ما جرى سابقا ويجري الآن من تطورات مفاجئة على النمو الاقتصادي والبطالة، هل سيشهد الاقتصاد الأمريكي ركودا أكبر وأطول مما كان متوقعا؟ وهل ستترتب عليه معدلات بطالة أعلى مما سبق أن توقعه أو قدره "الاحتياطي الفيدرالي"؟ وكيف ستتلقى الأسواق الأمريكية والعالمية أيضا نتائج الممارسات الراهنة والمحتملة مستقبلا للسلطات الأمريكية؟
لا توجد حتى اللحظة الراهنة إجابات محددة، والمؤكد فقط هنا أن حالة الضبابية أمام مستقبل الاقتصاد العالمي والأسواق ازدادت أكثر مما كانت عليه طوال العام الماضي، وهو المشهد الذي شخص جزءا كبيرا منه المفكر الاقتصادي نورييل روبيني في أحدث مقال له منتصف الأسبوع الماضي، "تشريح الانهيار المالي" بقوله، "الآن هناك خطر جسيم يتمثل في حدوث انهيار شامل للأسواق المالية الأمريكية مع انهيار فقاعات الائتمان والأصول الضخمة.. وأن الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة الذي يزداد سوءا كل يوم، سيشهد في النهاية انخفاض أسعار المساكن بأكثر من 20 في المائة، مع فقدان ملايين الأمريكيين منازلهم، وستنتقل من حالات التخلف عن السداد وحبس الرهن العقاري الثانوي، إلى الرهون العقارية شبه الرئيسة والرهون الرئيسة، بما سيفاقم من إجمالي الخسائر على الأدوات المتعلقة بالرهن العقاري بما فيها CDOs إلى أكثر من 400 مليار دولار".
ختاما، لقد ثبت خطأ "الاحتياطي الفيدرالي" بتأخره عن التصدي مبكرا للتضخم في 2021 حينما كان يصفه بالتضخم العابر والمؤقت، ثم أخطأ مرة ثانية في 2022 باتخاذه إجراءات متسارعة لكبح التضخم، كان أول آثارها العكسية السقوط المفاجئ والسريع للبنوك الأمريكية، وانكشاف هشاشة النظام المصرفي الأمريكي، علما أن المشهد لم يكتمل بعد، ولا يعلم بما قد يأتي به من مفاجآت أخرى. وأمام تلك التداعيات، وردة فعل "الاحتياطي الفيدرالي" تجاهها، هل هو في طريقه لارتكاب خطئه الثالث خلال 2023؟ هذا ما ستكشف عنه الأسابيع أو الأشهر المقبلة على أبعد تقدير.

إنشرها