ثقافة وفنون

رواية «طفلة الرعد» .. العجز قرار والحرية قرار أيضا

رواية «طفلة الرعد» .. العجز قرار والحرية قرار أيضا

هيلانة لزوجها المخطوف: الوطن كله اختطف يا صالح. وفي غيابك، صوتي وحده لا يكفي.

رواية «طفلة الرعد» .. العجز قرار والحرية قرار أيضا

غادة الخوري

تعيد الكاتبة اللبنانية غادة الخوري عقارب الزمن إلى حقبة يظن كثر أنها لم تنته بعد، رغم مرور عقود عليها، تعود بشخصياتها وأحداثها إلى الحرب اللبنانية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، فتبحث في روايتها الصادرة عن دار الآداب، عن أجوبة لأسئلة لم نعرف لها سبيلا، وتضعنا على مفترق طرق من خلال شخصية هيلانة، الفتاة اليتيمة والزوجة الخائفة المنعزلة داخل جدران منزلها، تحاول محاربة عاهة لازمتها منذ صغرها، وجعلتها موضعا للتنمر والسخرية من كل من حولها، وكيف تشق طريقها بإصرار وعزم لتتحول إلى امرأة متمردة تحاول الخروج من عنق الزجاجة وعيش الحياة بمعايير مختلفة وأفكار لا تشبه أفكار القرية الريفية التي انتقلت إليها بعد زواجها المبكر.
"طفلة الرعد" قفزة عبر الزمن تعيدنا إلى عالم كنا فيه مجرد آلات تحركها أقاويل وأخبار وموروثات، كثير منا لا يعرف مصدرها، وقراءة عميقة في تأثير الحرب الأهلية في تركيبتنا النفسية وبيئتنا الاجتماعية وما تركته من ترسبات أدت بشكل أو بآخر إلى تدمير ما تبقى من هذا الإنسان في داخلنا، سوى لدى قلة من الأشخاص، آمنوا رغم التناقضات بأن العجز قرار، والحرية قرار أيضا، واختاروا دربا شائكا بحثا عن حياة تليق بهم، وهيلانة واحدة من هذه القلة.
هيلانة والتأتأة
هيلانة بطلة الرواية والشخصية المحورية فيها، تدور الأحداث في فلكها، لتكون طفلة الرعد التي تعاني عاهة التأتأة وتنمر الآخرين عليها، ذاك المارد الأسود كما تسميه في الرواية "لماذا يشل أطرافها ولسانها ولا يختفي إلا حين يأتي الرعد ويرفعها إلى حيث يمحو الضوء كل التباس مع العتمة". وتهرب إلى الرعد بحثا عن مصدر أمان وطمأنينة تأنس به. هيلانة لا تشبه غيرها من الأطفال، فهي اختبرت الخسارة قبل بدء الحرب، عندما خسرت والدتها التي غرقت في بئر خلال محاولتها انتشال مركب ورقي لها وهي طفلة في السادسة من عمرها، تعيش مع شقيقتها فاديا الثرثارة وزوجها الكتائبي، وأخيها فريد بقناعاته القومية.
عاهة التأتأة هي الوحش الأسود الذي يتربص بالبطلة، في بداية الرواية، وتتمكن من قتله باعتباره رمزا لهذه العاهة في نهايتها.
تعاني فوبيا الاختلاط وتلازم بيت زوجها، لكن موقعها على الهامش، يدفعها إلى الاقتحام. تهذي بكابوس التأتأة اللامتناهي ليقودها هذيانها إلى الصحوة المرتقبة.
محاربة الوحش الأسود
تستسلم هيلانة للوحش الأسود، وتختار حياة الانطواء والعزلة هربا من عيون ناقدة وألسنة شريرة تنتهك حرمة حياتها والأسباب التي أدت إلى وقوعها في شرك التأتأة، لكن مع تطور الأحداث ولدى انتقالها إلى الحياة الزوجية التي اختارتها رغم ما تجهله عنها، لأنها تبحث عن التغيير، وبين تنامي مشاعر الأمومة ورغبتها في حماية طفلتها هبة من الوحش الأسود، تلجأ هيلانة إلى مجموعة من آليات الدفاع، من قبيل ملازمة البيت، تجنب الاختلاط بالآخرين، القراءة والكتابة، الرعد، استبدال الأحرف، السعال، الراديو، وغيرها. لكن القلق يبقى مرافقا لها، فهي تجهل سبب هذه العاهة، ويأتي تكتم المحيطين بها على السبب وكيفية موت أمها وسبب احتراق الصبية الجميلة وردية شقيقة زوجها ليضيف إلى شعورها بالقلق شعورا آخر بالتهميش، وتأتي الأحداث الغامضة التي تحصل في القرية لتزيد من خوفها، وتقرر أن تواجه الوحش الأسود لتتحرر من عاهتها وتقضي عليه.
هيلانة لديها شغف بالقراءة، عشقت روايات مثل: "آنا كارنينا" للروسي ليو تولستوي، و"رجال في الشمس" للفلسطيني غسان كنفاني، جنبت عقلها تصديق خزعبلات يسبح بها أهل ديرزوفا الأميون بأغلبيتهم، الذين يستلقون في كهوف الجهل، لهذا تعلمت كيف تروض صوتها خدمة لما تريد قوله، تعلمت حيل الكلمات، وتدربت عليها وطورتها، وباتت تحبس ما تريد قوله وتكتفي بما يمكنها أن تقوله.
هيلانة الأم تغلبت على هيلانة المنطوية، ونجحت في كسر حاجز الخوف وقتل الوحش الأسود الذي سكنها أعواما.
هيلانة البطلة
كثيرة الأحداث في هذه الرواية ومتشعبة، وإن كانت جميعها تصب في خانة واحدة، وتعكس مرارة وطن انهزم في لحظة ضعف، فبعد القلق تأتي الصحوة وتجد هيلانة نفسها مجبرة على الوقوف في وجه قدرها، وتقرر أن تشارك في عيد السيدة للمرة الأولى، وسرعان ما تبدأ بتنشق ملامح الثقة حين ترى صالح زوجها على رأس حلقة الدبكة وسط إعجاب المشاركين، تتسلح بالقوة وتبدأ بالتكلم مع الآخرين والاختلاط بهم، وتبلغ هذه الثقة ذروتها في نهاية الرواية حين تتصدى لشخص يقتاد أم عادل وابنتها بقوة السلاح فيتحرر صوتها من عقاله وتحرر المرأتين منه وتغدو موضع إعجاب الجميع بعد أن كانت موضع تنمرهم، وتقتل الوحش الأسود الرابض على كتفها منذ الطفولة.
هيلانة الوطن
تطرح غادة الخوري مقاربة حقيقية بين هيلانة التي تختصر صوت التغيير على المستوى الفردي ووطن يذبح كل يوم لأسباب طائفية وسياسية ومناطقية، وتشعر بأن صوتها وحده لا يكفي، وتحتاج إلى من يشاركها هذه الخطوة، لذلك تنهي الخوري روايتها حين تقول هيلانة لزوجها صالح المخطوف: "الوطن كله اختطف يا صالح. وفي غيابك، صوتي وحده لا يكفي".
هيلانة تحولت من شخصية ضعيفة تحس بالتهميش والنقص، وتخشى مواجهة الناس، إلى امرأة لا تؤمن بالخزعبلات وتتوق إلى التحرر، وها هي في خضم الحرب الأهلية تتفقد بعض العائلات، وتطمئن إلى أحوالها في غياب أبنائها، وتبدي حماسة للانضمام إلى اللجان الشعبية.
وجوه وقصص
إضافة إلى شخصية هيلانة المحورية هناك كثير من الشخصيات التي تتشارك في بناء السرد الدرامي لهذه الرواية، بدءا من شخصية صالح الزوج المخلص والفلاح النشيط والحريص على البيئة وصاحب المروءة العالية وشيخ شباب الضيعة وحامي الحمى، وأم عادل المرأة القوية والصديقة الوفية والأم الصابرة، وفريد الأخ المحب والحزبي الملتزم، وعفاف الصديقة المخلصة والزوجة المخدوعة، وأبو فؤاد العم الوفي، وغيرهم. إضافة إلى نادية الصهباء المطلقة التي سيطرت على دكان زوجها جورج، وأقصته عن التعامل مع التجار، وأخفت عنه دفتر الحسابات، وإبراهيم الذي يقيم في بيروت ويلتحق بالحرب منذ اندلاعها، وبيار الذي يشهر سلاحه في وجه بعض نساء القرية، والأخ ألبير الذي يعتاش من التبصير وترويج الخزعبلات، وفادية التي تمارس نوعا من الوصاية على أختها، والأستاذ نبيل الذي يزاوج بين حرصه على استخدام العربية وسلوكياته المتحللة من الضوابط، والمختار الذي يبدي حرصه على مصلحة القرية ويشتبه بتواطئه مع النواب، وغيرهما.
تنتهي الرواية برسالة قد لا تصل، من هيلانة إلى زوجها صالح المخطوف الذي قال لها مرارا: إنه لن يدنس الأرض بطمعهم، "بتفهم وعندها حكمة، ومش على ذوقنا بتمشي"، لتقول له: إن الجهل شقاء، وتخبره كيف أضاعت عمرها وهي خائفة من نفسها وتتجنب الآخرين كي لا تفضح ضعفها أمام مرآتها، وكيف أن وعيها كان بوابة خلاصها، معلنة موت وحش أسود أثقل كتفيها طوال حياتها، ليفتك وحش أشد سوادا بالوطن كله ويمزقه.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون