Author

العملات الرقمية .. قلق مستدام

|
كاتب اقتصادي [email protected]

الصدمات الآتية من حراك العملات الرقمية وأسواقها لا تتوقف، والقلق الناتج عنها بات مستداما في مختلف الأوساط بمن فيهم المستثمرون أنفسهم، الذين يتعرضون إلى ضغوط هائلة من جراء التقلبات الواسعة في سوق هذه العملات، ومن عدم وضوح الرؤية حيال مستقبلها واستقرارها. أرباح العملات المشفرة عموما تكون هائلة، وخسائرها أيضا ضخمة، بحيث عرضت آلاف المستثمرين إلى الإفلاس، ووضع حتى جانب من النظام المصرفي في دائرة من التساؤلات لا تنتهي. على رأسها انكشاف النظام على هذه العملات، وموجات الاقتراض من أجل الاستثمار فيها من قبل الأفراد، بل ارتفاع عدد أولئك الذين فضلوا بيع أصولهم لضخ عوائدها بحثا عن أرباح سريعة، بصرف النظر عما إذا كانت مضمونة أو شبه مضمونة أم لا.
الانهيارات متتالية في سوق العملات المشفرة، الأمر الذي أصبح سمة شبه دائمة في هذه السوق التي لا تزال بصورة أو بأخرى خارج نطاق الرقابة التنظيمية العالمية، وإن شهدت بعض الخطوات "غير اللافتة" بهذا الشأن من عدد من الحكومات في الآونة الأخيرة. والمشكلة أن الحكومات لا تزال مترددة في عملية التنظيم، أو في طرح عملاتها الرقمية الرسمية الخاصة بدولها. في وقت ترتفع فيه حدة المخاطر في سوق تجمع ما لا يقل عن أربعة آلاف عملة مشفرة، تحوم حولها المخاوف من صدمة قد تأتي بها إلى المشهد المالي العالمي، بينما يمر العالم بمرحلة اقتصادية مالية حرجة، نتيجة الموجة التضخمية الهائلة، التي لا تعالج إلا بـ"دواء" واحد وهو رفع الفائدة، ما يسبب تراجع النمو، بل أحيانا ظهور الانكماش، وزيادة الضغوط المالية على الأفراد والحكومات في آن معا.
في الأسبوع الماضي، برزت هذه الصدمة بوضوح من انهيار في القيمة الإجمالي السوقية للعملات الرقمية لتصل إلى ما دون تريليون دولار، بعد تراجعات هائلة لكل هذه العملات، وعلى رأسها "بيتكوين" الشهيرة، بتراجع بلغ 11 في المائة لتصل إلى 20 ألف دولار. هذه الصدمة الجديدة، جاءت في وقت تعرضت فيه بورصة "وول ستريت" الأمريكية، إلى أكبر تراجع على الإطلاق منذ الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2008. ماذا حدث أيضا؟ تم إعلان إغلاق بنك "سيلفرجيت" أمام أعمال التشفير، بعد أن كان أحد البنوك الصديقة لهذا الحراك المالي. إلى جانب طبعا الانهيار الذي تعرض له بنك "سيلكون فالي" الأمريكي، وأدى إلى تحرك السلطات للسيطرة عليه حفاظا على أموال المودعين.
وبعيدا عن تفاعلات قضية البنك الأمريكي المشار إليها، تظل مسألة العملات المشفرة واحدة من أكثر القضايا المفتوحة والمعرضة للتفاعلات الخطيرة، التي ستؤثر حتما في النظام المالي ككل في حال تعمقت خسائرها بصورة غير طبيعية. ويبدو واضحا واستنادا إلى عقد كامل من الزمن، أن الحكومات تتجه إلى إنتاج عملاتها الرقمية أكثر من الاهتمام بتنظيم سوق العملات المشفرة الموجودة حاليا في السوق التي بلغت قيمتها قبل أيام 969 مليار دولار فقط، مقارنة بإجمالي قيمتها قبل عامين البالغ أكثر من ثلاثة تريليونات دولار. ويبدو أيضا، أن صندوق النقد الدولي يتفق مع توجهات الحكومات بهذا الشأن. ففي مطلع العام الجاري، حث المجلس التنفيذي للصندوق الدول الأعضاء على عدم منح العملات الرقمية وضع العملة الرسمية الوطنية، وذلك في إطار مواجهة التحديات الناجمة عن هذه العملات في الوقت الراهن.
بالطبع اقترح صندوق النقد تطوير ما سماه "متطلبات الرقابة على جميع العاملين في سوق العملات المشفرة"، ما يؤكد مجددا وجود الثغرة التنظيمية في هذه السوق. وهنا تبرز قضية مهمة تتعلق بغياب الحلول العملية بشأن المدفوعات والتمويل عبر الحدود، ما شجع الجهات الدولية المعنية على المطالبة بإيجاد هذه الحلول بأقرب وقت ممكن. لكن الأمر ليس بهذه السهولة، في ظل عدم وجود تعاون دولي متماسك في هذا الخصوص، أو على الأقل وضع المسألة على هوامش التنظيم المالي العالمي، ما يعني أن الصدمات قد تظهر في أي لحظة في سوق العملات المشفرة، بما يكفي لضرب جانب مهم من النظام المالي العالمي. لذلك فالأولوية باتت مهمة بهذا الشأن مع تزايد انهيار عدد منصات تداول العملات الرقمية، وانكشاف مؤسسات استثمارية ومالية عليها.
المشهد العام لسوق العملات الرقمية يزداد خطورة يوما بعد يوم، بحيث يمضي بنك التسويات الدولية إلى حدود بعيدة، بضرورة وضع حد لما سماه "الجدل بشأن إمكانية إحلال العملات المشفرة محل العملات الوطنية الحقيقية". أي أنه لا يعتقد بأهمية وجود هذا النوع من العملات أصلا، ويدعم بقاء النظام المالي ضمن النطاق التقليدي المعروف على صعيد العملات. ولا شك أنه ينطلق من هذا المفهوم، من أن العملات الرقمية ليست مستقرة، ولن تكون كذلك في المستقبل حتى لو تم إخضاعها للتنظيم المباشر من قبل المشرعين الماليين محليا وعالميا.
وبصرف النظر عن هذه الرؤى وغيرها، تبقى المسؤولية الأولى والأخيرة على الحكومات حول العالم بشأن موقفها من العملات الرقمية عموما، ومفهومها لهذا النوع من العملات سواء كان سارحا بلا قيود، أو كان رسميا وطنيا صادرا عنها.

إنشرها