Author

عندما يسوس العالم فكر التوحش

|

أي مشروع كبيرا كان أو صغيرا يبدأ بفكرة قد تكون في بدايتها بسيطة، وربما مبهمة وغير واضحة، لكن مع الوقت يقوم ببلورتها والتفكير فيها بعمق، محاولا معرفة إيجابياتها وسلبياتها، ومدى قدرته على تنفيذها، وترجمتها إلى مشروع قابل للحياة. ومع الوقت، وبعد اقتناعه بجدواها يضع الخطط اللازمة لتنفيذها، ومن ثم السعي إلى توفير المتطلبات اللازمة، كما أن مما يقدم عليه استشارة ذوي التخصص، أو ذوي الشأن، ومن يستهدفهم المشروع، لمعرفة مدى الحاجة إليه، ومدى مناسبة طرحه توقيتا وبيئة وقبولا من قبل من يعنيهم الموضوع، ليس من حيث الحاجة، بل من حيث الفكرة ابتداء.
المشاريع التجارية، أو السياسية، وغيرها من المشاريع الأخرى يتم استكشاف إمكانية تقبلها من المعنيين، إما بخبر صحافي، أو تصريح مسؤول، أو استقصاء رأي بصورة علمية، كما في استفتاءات الرأي التي تطرحها الشركات أو الجهات الرسمية في الدولة.
في فترة رئاسة الرئيس الأمريكي بوش الابن، صرحت كونداليزا رايس التي شغلت منصبي مستشارة الأمن القومي، ثم وزيرة الخارجية، بأن أمريكا تنوي العمل على إيجاد الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، وفي هذه التسمية وقفات مهمة، فالفرق واضح بين الجديد والكبير، فالجديد قد يعني شيئا متغيرا عن ذي قبل. وبحكم أن التصريح صدر من وزيرة خارجية دولة مؤثرة، لذا يذهب الذهن إلى تغير في الثقافة السياسية والاتجاهات بين مكونات المنطقة، بوجود الكيان الصهيوني المرفوض من قبل أبناء المنطقة.
أما الشرق الأوسط الكبير، فيعني المساحة الواسعة، الأكبر عن ذي قبل، ولعله من المناسب السؤال من أين ستأتي أمريكا بمساحة إضافية لما هو موجود، خاصة أن الشرق الأوسط يعني المنطقة العربية، إلا إذا كان الهدف فقط إلغاء مصطلح العربي، ومسحه من ذاكرة الأجيال، بهدف القضاء على التميز العربي في اللغة، والجغرافيا، والثقافة العامة، والعادات، والتقاليد.
إن طرح سؤال: ما أهداف المشروع؟ ومحاولة الإجابة عنه، قد يكشفان لنا الأبعاد السياسية التي لا تتحقق ما لم يوجد تغير ثقافي يكون المدخل إليه إعادة صياغة العقول بضخ ثقافة جديدة تتغير فيها المصطلحات، والمفاهيم، ومعنى الحياة، وطريقة التفكير، ليكتسب أبناء المنطقة الشعور بالتطور والرقي، حتى إن كان شعورا زائفا، ويعشق أسلوب الحياة الغربية، وتحديدا الأمريكية، وهذا ما صرح به الرئيس بوش، حين ذكر في أحد أحاديثه لنجعلهم يعشقون نمط حياتنا، ويتلذذون بشطائرنا.
خطورة مشروع الشرق الأوسط الجديد تتمثل في انسلاخ الأجيال من قيمهم، وضعف انتمائهم لأمتهم، إضافة إلى رخص الأوطان في عيونهم، والتراخي في الدفاع عنها، لأن منظومة التفكير الغالبة ستكون مرتبطة بالحياة اليومية، والملذات فقط، دون أهداف عليا، كما أن نجاح هذا المشروع -لا سمح الله- سينتج جيلا لا يميز بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، ويؤكد هذه النتائج الكارثية المتوقعة تصريح رايس بشأن الفوضى الخلاقة المزمع تطبيقها في الخلاقة أثناء تلك الفترة، وهذا ما حدث بادعاء أمريكا امتلاك العراق أسلحة ذرية وجرثومية تبرر بها غزوها المدمر، وما نتج عنه من قتل وفوضى اجتماعية، ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة بكاملها، كما نشاهد في سورية ولبنان واليمن، ترتب عليها تسليم العراق لإيران على طبق من ذهب، كما ذكر الأمير سعود الفيصل، ومن يومه واصلت إيران التدخل في شؤون الدول العربية.
مفهوم الفوضى الخلاقة أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه عبثي لا أخلاقي، ويعبر عن عقلية دموية رعناء، لا تكترث بحياة الناس واستقرار المجتمعات بقدر اهتمامها بمصالحها الضيقة، فكيف يصدر هذا التوجه من دولة تتزعم العالم وترفع شعارات الحرية والعدالة والقيم الإنسانية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة؟! ولو قدر لمسؤول من دولة وثقافة أخرى وصرح بمثل هذا التصريح لوجهت له سهام التجريح، واتخذت بحقه قرارات مجلس الأمن، بل تشن عليه الحروب الإعلامية والعسكرية.
أعتقد أن العالم بكامله بحاجة إلى السعي لإيجاد عالم جديد، لا شرق أوسط جديد بالمفهوم الأمريكي. عالم تسود فيه القيم الإنسانية السليمة، لا المنحرفة التي تستهدف إهانة الإنسان المكرم من اللـه. عالم تسود فيه العدالة، وليست القوة والعنف. ما أحوجنا في العالم العربي إلى عمل مؤسسي يتصدى علميا لهذه المشاريع المدمرة ويفندها فلسفيا، أخلاقيا، سياسيا، قانونيا، حسب الأنظمة الدولية التي لا تطبق إلا على الضعفاء، ويتكسب فيها الأقوياء.

إنشرها