Author

القناعة المشوهة

|
معروف أن القناعة هي الرضا بالنصيب والارتياح للمقدر مهما كان، ومن أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا، وهي معنى إنساني راق ومبدأ اجتماعي مهم، تمنح صاحبها القوة وتسنده أمام رياح الفشل ومصد نفسي أمام مشاعر الحزن والاكتئاب والعزلة، بيد أنها لا تعني الرضوخ والاستسلام والتقوقع والرضا بالدون.
قال الشاعر
ومن يتهيب صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
والقناعة مثلبة متى ما منعت الإنسان أن يعتلي التحديات ويتجاوز الصعوبات، ومنقبة جميلة حينما تكون وقودا للسعي والتطوير لا كلا على النفس والناس.
لقد تشوه مفهوم القناعة لدى البعض، فتجده يستسلم للعراقيل ويتوقف في أول تجربة فشل، وينهزم أمام العقبات التي تقف أمامه ويخاف من إعادة المحاولة ويخشى المنافسة ويلجأ إلى مشجب القناعة بأن هذا هو المقدر والمكتوب، ويكتفي بأن هذه هي مشيئة اللـه، وهنا تلتبس بمفهوم الكسل، وإن شئت فقل الحسد، فالحاسد يغمر نفسه بفكرة أنه إنسان قنوع وصابر ومحتسب، لكن يركب بحور التكلف للوصول إلى مطامع ارتسمها في مخيلته فيسيل لعاب طمعه حين يجد أي فرصة تغيب فيها مبادئ القناعة وتظهر مساوئ الطمع والنظر فيما لدى الآخرين.
إن القناعة وقود للعمل، فهذا المعنى السليم لا المبتور الذي هو خطأ في التصور حقا، وقمن ألا يتبناه عاقل يؤمن بأن الحياة تجارب لا تلبث على حال واحدة ولا طريقة واحدة، والقناعة المشوهة سلوك لا يتسرب إلا إلى النفوس الضعيفة الساكنة القانطة ومنطق غير سوي قطعا يدل على جهل بالمعنى العميق للقناعة ومؤداها الجميل.
القناعة الحقيقية لا تؤدي إلا لمزيد من البذل، فكل ما قيل عن القناعة فهو بهذا المعنى الذي يقود إلى السعادة وأرضية متينة للبدء من جديد، وفي المقابل فإن ثمة كثيرين يبحثون عن السعادة وهم يتناسون فضيلة القناعة، ويتساءلون بمنطق غريب عن أسباب البؤس وأعينهم شاخصة إلى ما عند الآخرين من نجاح وإبداع.
إن القناعة رحمة للقنوع متى ما فهمها بالشكل الصحيح وآمن بمعانيها السامية، وعلى هذا الأساس الذي تقدم، فإن اثنين لا يصطحبان أبدا: القناعة والحسد، إذ هما في الواقع ضدان لا يلتقيان في قلب المرء، وقد قيل في هذا المعنى كثير، ومنه أن من أراد الغنى فإنه يطلب بالقناعة، وقيل العبد حر إذا قنع، والحر عبد إذا طمع.
إنشرها