Author

التاريخ والجغرافيا هل يتنافسان أم يتكاملان؟

|

التاريخ يمثل الأحداث والتجارب التي مرت بها البشرية، سواء كانت هذه الأحداث سلمية وحميدة، أم كانت عدوانية وسيئة. فالعلاقة بين الأمم والشعوب فيها التعاون والتآزر وفعل الخير للآخر، وكذلك فيها الحروب والتنافس السيئ في الوقت ذاته، وما دون. وما تم تناقله بين الأجيال يؤكد حقيقة نوعي العلاقة بين الشعوب، سواء كانت داخل المجتمع الواحد، أو بين المجتمعات المتباينة، أو حتى المتشابهة في اللغة أو الثقافة أو الدين. كما أن الجغرافيا تمثل الأرض التي يعيش عليها جمع من الناس باختلاف طبيعتها، فيما إذا كانت صحراوية أو ساحلية أو غابات أو كانت بيئة غنية بالموارد أو فقيرة. ولعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن عناصر التشابه والاختلاف بين البشر، فيما يتفقون أو يختلفون فيه، تمثل عناصر محفزة للتآخي والتعاون، أو التنافس الخشن والعداوات. كما أن غنى البيئة أو فقرها يمثل سببا للعداوة وما يترتب عليها من حروب واعتداءات أو تآخ وعطف، يتحول فيها الناس إلى ضحايا، أو علاقات حميمية، حتى إن الأجيال تتوارث ما تم بين فئات المجتمع الواحد من تصالح وإخاء، وكذا ما بينهم وبين المجتمعات الأخرى، ليشكل نوع العلاقة هذه الذاكرة الجمعية، أو التاريخ الممهور بطبيعة العلاقة التي مضت عليها قرون، لتشكل محددات يلتزم بها الجميع ويتصرفون وفقها.
البشرية في صورتها البدائية شهدت صراعات وحروبا بين مكونات بيئة جغرافية واحدة، وهذا يفسر لنا هجرات القبائل من مكان إلى آخر، نتيجة عملية ترحيل واختلاف بين أبناء عم ينتمون إلى العرق نفسه أو القبيلة، كما أن الاختلاف العرقي كان سببا في كثير من العداوات والحروب. فالتنافس على مصادر الرزق كالمياه والمراعي كان سببا مباشرا للحروب في بيئة جغرافية واحدة، حكمت الظروف أن يعيش عليها أكثر من مكون، كما كان يحدث بين القبائل العربية، مع عدم زوال هذه الأسباب، وكأني بهذا العامل الاقتصادي انتقل مع البشرية في وضعها الحالي، مع ما تحقق من قفزات هائلة في المعرفة والتقنية، ومع التنافس على المياه والمراعي أصبح التنافس والعداوات، والاعتداء على الآخر بسبب منتج تتنافس فيه شركتان أو دولتان، ليكون التنافس سببا في اشتعال الحرب.
الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا منذ عام لو تنبأ بها أحد قبل 1990 لربما لم يصدقه أحد، نظرا لكون الدولتين جزءا من دولة كبرى تعرف بالاتحاد السوفياتي، إلا أن النظرية التي تجمع بين الدولتين أثبتت فشلها على أرض الواقع، لتجد الشعوب المتعددة نفسها أمام ضرورة الاستقلال، والتمركز حول المكون العرقي أو الديني الغالب على من يقطنون جغرافيا متعارفا على حدودها، أو هكذا يظن، ليوجد هذا الاستقلال حاجة لدى الأوكرانيين للانضمام إلى تحالف يعرف بحلف الناتو. ولحساسية الجغرافيا وما قد يترتب على الانضمام للناتو من مخاطر على روسيا حدث الاحتجاج والاعتراض ومن ثم الحرب، ليتعقد الوضع وتتدخل أطراف عديدة، وتتخذ قرارات تخدم أجندات مصالح اقتصادية وسياسية وجيوسياسية. وما الدعم العسكري لكلا الطرفين، وما قرارات المقاطعة الاقتصادية، وضرب خط تصدير الغاز، وتأثر تصدير المنتجات الزراعية، إلا نتائج أصبحت سببا يبرر به البعض تراخيهم، وربما فشل إجراءاتهم الاقتصادية.
مثال ثان يتمثل في ناغورنو كرباخ، والخلاف عليها بين أذربيجان وأرمينيا، وما ترتب عليه حرب بينهما انتهت باستعادة أذربيجان أراضيها، كما أن تداخل التاريخ بالجغرافيا يتمثل في الولايات المتحدة، وأغلبيتها السكانية الآن المتمثلة في الأوروبيين المهاجرين، إلا أنه تاريخيا يمثل السكان الأصليون الجغرافيا السكانية الغالبة، والذين تحولوا إلى أقلية بعد فنائهم على أيدي الأوروبيين المهاجرين ليكون نصيبهم جغرافيا مناطق معزولة تفتقد كثيرا من المقومات.
الأمثلة السابقة ما هي إلا غيض من فيض للدور الذي تلعبه الجغرافيا والتاريخ في الأحداث العالمية، سواء بشكل منفرد أو بشكل تكاملي، ما يجعل الإلمام العميق بالجغرافيا وخصائصها وتاريخها أمرا واجب التحقق، إذا ما أردنا الإسهام في الإصلاح بين المتنازعين على جغرافية ما، أو خلاف تاريخي يمثل سببا للنزاع، لذا فالمؤسسات التعليمية ومراكز البحوث معنية بإيجاد المتخصصين، وإجراء الدراسات، لنتمكن من التحاور والتفاوض مع الآخر من منطلق متين قائم على الحقائق والمعلومات.

إنشرها