تقارير و تحليلات

أصوات المدافع تعيد تشكيل الاقتصادات .. أسواق ناشئة على شفا الإفلاس وركود يخيم على "المتقدمة"

أصوات المدافع تعيد تشكيل الاقتصادات .. أسواق ناشئة على شفا الإفلاس وركود يخيم على "المتقدمة"

أصوات المدافع تعيد تشكيل الاقتصادات .. أسواق ناشئة على شفا الإفلاس وركود يخيم على "المتقدمة"

في عام 1972 وخلال لقاء تاريخي بين هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي وتشو إنلاي رئيس وزراء الصين، سأل كيسنجر رئيس الوزراء الصيني عن تقييمه للثورة الفرنسية التي وقعت في 1789، ابتسم إنلاي وأجاب بأنه لا يزال من السابق لأوانه استخلاص استنتاجات نهائية لحدث وقع قبل نحو قرنين من الزمان.
ربما ينطبق المنهج نفسه وإلى حد كبير على الحرب الروسية في أوكرانيا التي تدخل عامها الأول الآن، وسط غياب أي توقعات بأنها ستنتهي في القريب العاجل. فالحروب ولا شك تشكل العالم، وتغير مصير المجتمعات والدول، والحرب الروسية - الأوكرانية ليست باستثناء من هذا، فما رشح من عواقبها الاقتصادية على العالم لا يعدو إلا أن يكون قمة جبل الجليد المغمور تحت الماء.
تبرز الكارثة الحقيقية للحرب الروسية - الأوكرانية على الاقتصاد الدولي من أن البلدين رغم كونهما لا يشكلان معا سوى جزء صغير من الاقتصاد العالمي إلا أن حجم الخراب الذي أحدثته الحرب بينهما للاقتصاد العالمي هائل، منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قدرت تكلفة الحرب الروسية - الأوكرانية على الاقتصاد الدولي بنحو 2.8 تريليون دولار من حيث الخسائر في الإنتاج، وعلى الرغم من ضخامة هذا المبلغ يظل من السابق لأونه تقييم الندوب طويلة الأمد التي ستسببها تلك الحرب للاقتصاد العالمي.
ينبع تأثير روسيا وأوكرانيا في الاقتصاد الدولي من إمدادهما لجزء كبير من الطاقة والغذاء والأسمدة في العالم، ففي 2019 بلغت حصة روسيا من واردات الغاز والنفط والفحم الأوروبية 40 – 25 - 45 في المائة على التوالي، واستحوذت روسيا وأوكرانيا على 25 في المائة من واردات القمح الدولية.
كان الارتفاع المفاجئ في أسعار الطاقة والغذاء نتيجة الحرب آخر شيء يحتاجه الاقتصاد العالمي في وقت كانت معدلات التضخم ترتفع فيه بسرعة نتيجة لاضطرابات سلاسل الإمداد وسياسة التيسير الكمي والدعم المالي الذي تم تقديمه خلال جائحة كورونا.
ونتيجة للحرب، ارتفعت نسب التضخم إلى مستويات غير مسبوقة ففاقت 9 في المائة في الولايات المتحدة و10 في المائة في أوروبا والمملكة المتحدة، لذلك اتجه كل من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والمصرف المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا لرفع معدلات الفائدة، وباتت كل من الولايات المتحدة وأوروبا والمملكة المتحدة على شفا ركود اقتصادي قد يصيبها هذا العام.
وإذا لم تكن الاقتصادات المتقدمة في وضع اقتصادي يسمح لها بامتصاص صدمة ارتفاع الأسعار نتيجة الحرب، فإن اقتصادات الأسواق الناشئة كانت في وضع أسوأ.
وهنا قالت لـ"الاقتصادية" الدكتورة كريستين بيتر أستاذة الاقتصادات الناشئة في جامعة ليدز، إنه "بسبب الحرب باتت بعض الأسواق الناشئة على شفا الإفلاس، فالدين العام وأقساط سداد الديون بلغت مستويات غير مسبوقة، أضف لذلك أن قدرات الأسواق الصاعدة على الاقتراض تراجعت بشدة، ويمكن أن يشهد الربع الأخير من هذا العام إذا ما استمرت الحرب موجة إفلاس في الأسواق الناشئة لعدم القدرة على سداد ما عليها من أقساط الديون".
وأضافت "بالطبع أضعفت الحرب من استعداد رؤوس الأموال الدولية من الاستثمار عامة وفي الأسواق الصاعدة خاصة، إذ فضلت رؤوس الأموال الاستفادة من ارتفاع أسعار الفائدة الدولية عن المجازفة الاستثمارية في الوقت الراهن، ونتيجة لذلك فإن تقديرات البنك الدولي تتحدث عن أن الحرب دفعت نحو 100 مليون شخص نحو براثن الفقر".
مع هذا يعتقد البرت كارتر الباحث في معهد الأمن الغذائي العالمي، أن الحرب الروسية في أوكرانيا كشفت عن هشاشة منظومة الأمن الغذائي العالمي بشكل خطير، وأنه رغم استئناف تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية، والتراجع الحاد في أسعار الأسمدة، وتقديم المجتمع الدولي مليارات الدولارات لمساعدة الدول الفقيرة لتفادي نقص الغذاء على نطاق واسع، فإن العالم لا يزال في قبضة أزمة غذائية هي الأسوأ في التاريخ المعاصر.
وقال لـ"الاقتصادية" "الأوضاع في أسواق الغذاء العالمية تحسنت بشكل طفيف في الأشهر الأخيرة، لكن المشكلة لم تحل تماما بعد، خاصة في المجتمعات الضعيفة، إذ إن خطر المجاعة لا يزال قائما في دول إفريقية، والمؤكد أن 2023 سيكون عاما صعبا على جبهة الغذاء العالمي".
وبالفعل فإن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة تلقى العام الماضي مساعدات بقيمة 14 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق في تاريخه، ما ساعد على توفير الطعام لـ160 مليون شخص، مع هذا فإن تلك المبالغ المالية لا تكفي، فقبل اندلاع الحرب كانت أسعار الغذاء مرتفعة بسبب سلاسل التوريد المتعثرة والظواهر الجوية التي أثرت سلبا في المحاصيل، ثم جاءت الحرب فزادت الطين بلة.
وأشار البرت كارتر إلى أن "أوكرانيا تزود العالم بنحو 45 مليون طن متري من الحبوب، وأكبر مصدر لزيت دوار الشمس، وروسيا تمد العالم بربع احتياجاته من القمح، وقد أدت الحرب إلى تأثير سلبي في التدفق العالمي للحبوب، وإلى ارتفاع الأسعار إلى أعلى مستوى لها منذ 2005، والعام الماضي قفز عدد الأشخاص الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي من 135 مليون شخص في 2019 إلى نحو 345 مليون شخص".
مع هذا يتخوف البعض من إمكانية انفجار أزمة غذاء عالمية هذا العام بلا سابق إنذار، فارتفاع أسعار الأسمدة، دفع بالمزارعين إلى خفض الكميات المستخدمة منها، ما قد يؤدي إلى تراجع إنتاجية غلة المحاصيل في الموسم المقبل، وترافق ذلك مع زيادة الطلب الصيني على المحاصيل بعد رفع القيود مع تراجع معدلات الإصابة بفيروس كورونا، لذلك يمكن أن ترتفع أسعار الغذاء مجددا، وفي ظل ارتفاع أسعار الفائدة الدولية فإن قدرة الدول منخفضة الدخل أو متوسطة الدخل على الاقتراض من الأسواق الدولية لتوفير احتياجاتها الغذائية ستكون محل شك.
من جانبه، يرى الدكتور ديفيد ميلو أستاذ التجارة الدولية في جامعة لندن، أن 2022 سيذكر في التاريخ باعتباره العام الذي سرع من أزمة الطاقة العالمية نتيجة الحرب الروسية لأوكرانيا، ومن وجهة نظره فإن الحرب والعقوبات الغربية أدتا إلى تراكم ضغوط جديدة على إمدادات النفط والغاز المتوترة بالفعل نتيجة الانتعاش الاقتصادي السريع الذي تلا جائحة كورونا.
مع هذا، ذكر ميلو لـ"الاقتصادية" أن أزمة الطاقة العالمية كان يمكن لها أن تكون أسوأ من ذلك بكثير خاصة في القارة الأوروبية لولا المرونة والمسؤولية التي أظهرتها الدول المنتجة للنفط والغاز، إذ أظهرت الأزمة الأخيرة طبيعة الدور المحوري لدول منطقة الخليج العربي الذين يمدون الأسواق العالمية بنحو 18 مليون برميل نفط يوميا، ولعبت سياسة الحياد الإيجابي دورا رئيسا في استقرار الأسعار وضمان استمرار الإمدادات الدولية من النفط والغاز وعدم اضطراب الأسواق.
ومن المؤكد أن للحروب تأثيرها في الأسواق المالية العالمية، وعلى الرغم من أن روسيا وأوكرانيا لا يعدان لاعبين كبيرين في النظام المالي أو المصرفي الدولي، فإن الحرب التي تدخل الآن عامها الأول، وما تضمنته من عقوبات اقتصادية ضخمة وغير مسبوقة على الاقتصاد الروسي قد تركت بصماتها على النظام المالي العالمي.
من ناحيته، أوضح لـ"الاقتصادية" جونسون جبريال الاستشاري في المصرف المركزي الأوروبي، أن الحرب الدائرة في أوكرانيا أحدثت تأثيرا غير مباشر في النظام المالي العالمي، وأن تداعيات هذا التأثير ستتضح لنا بشكل أوضح إذا ما توقفت الحرب.
وأوضح لـ"الاقتصادية" أن "القتال في أوكرانيا، دفع بالولايات المتحدة إلى ضرورة إظهار قيادتها للعالم الغربي في مواجهة الهجمة الروسية، تلك القيادة ترجمت على أرض الواقع بمساعدات بمليارات الدولارات إلى أوكرانيا، وكذلك بمواقف سياسية قيادية، كل هذا انعكس على الدولار الأمريكي وزاد من قوته في مواجهة العملات الدولية الأخرى، إذ تراجع اليورو بنحو 14 في المائة العام الماضي نتيجة الأوضاع الاقتصادية الصعبة في أوروبا، والمشكلات الناجمة عن أزمة الطاقة، والاسترليني أيضا تراجع في مواجهة الدولار الأمريكي خاصة في ظل أجواء الركود الاقتصادي الحالي في بريطانيا، من ثم الحرب أوجدت اختلالات ملحوظة في العلاقة بين الدولار الأمريكي وغيره من العملات الرئيسة".
وأضاف "هذا الخلل قد يلزم الاقتصادات الكبرى والمنافسة للولايات المتحدة الصمت تجاهه مع استمرار الحرب، لكن عندما تصمت أصوات المدافع فإن قادة تلك الاقتصادات سيكون من الصعب عليهم القبول باستمرار تفوق الدولار على منافسيه من العملات الأخرى".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات