Author

اقتصاد أوكرانيا في حرب مستمرة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
يصعب تحديد الأطر كاملة لاقتصاد يمر بحالة حرب، فالحروب لا تترك مساحة لا للاقتصاد ولا حتى للسياسة في فترة دورانها، كما أنها تستهلك كل الإمكانات، وترهن المستقبل لتفاعلات بعضها يدوم طويلا، وبعضها الآخر يترك آثارا ما حتى إن زال تماما. بعد عام من نشوب الحرب في أوكرانيا، وهي الأخطر على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، التي نالت من كل شيء على الساحة الدولية عموما، تتزايد الأسئلة حول وضعية ومستقبل الاقتصاد في أوكرانيا، في الوقت الذي لا توجد فيه بارقة أمل لاتفاق سلام بينها وبين روسيا. من الواضح حقا، أن القواسم المشتركة بين موسكو وعواصم الغرب الداعم لحكومة كييف لا وجود لها، ما يعني أن الحل المأمول سيطول، لعام أو حتى لأعوام.
وفي ظل المعاناة الاقتصادية في أوكرانيا، إلا أنها تمكنت من التخفيف منها بفضل المساعدات الخارجية السخية، ولا سيما تلك الآتية من جهة الغرب، الذي تعهد بالمجمل بالوقوف إلى جانب هذا البلد عسكريا واقتصاديا حتى النهاية. وبعيدا عن المواقف الغربية المفهومة بهذا الشأن، فإن الاقتصاد في أوكرانيا بعد عام من الحرب، ليس سيئا كثيرا، حتى إن كان يمر بأسوأ تدهور منذ أكثر من ثلاثة عقود. في العام الماضي، انخفض الناتج المجلي الإجمالي للبلاد 30.4 في المائة. بالطبع سيكون الأمر خطيرا جدا، إذا ما انهارت البنى التحتية في أوكرانيا في سياق المواجهة مع روسيا التي شملت كل شيء تقريبا، بما فيها ذلك احتجاز سفن تجارية أوكرانية من قبل السلطات الروسية. دون أن ننسى بالطبع الحصار الذي يفرضه الغرب على موسكو منذ بدء الحرب، كوسيلة من وسائل الضغط لوقف الحرب.
واللافت أن انكماش الاقتصاد الأوكراني الذي تجاوز 30 في المائة، وهو الأكبر منذ استقلال البلاد عن الاتحاد السوفياتي في 1991، جاء أقل من كل التوقعات، بما فيها تلك التي أطلقتها سابقا المؤسسات العالمية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. فالأثر الخطير الحقيقي في هذا الاقتصاد آت بالطبع من تراجع الصادرات التي تمثل الرافد الأكبر للناتج المحلي الإجمالي. ورغم تحسن حراك التصدير في الفترة الماضية، مع إعادة فتح موانئ التصدير بالاتفاق مع موسكو، إلا أنه بقي دون المستوى المطلوب في الوقت الراهن. لكن يبقى الدعم الغربي للبلاد الحجر الأساس لاقتصاد تنهكه الحرب، ولدولة تسعى بكل ما تستطيع إلى أن تكون قريبا عضوا كامل العضوية في الاتحاد الأوروبي. فهذا الأخير مستعد لأي خطوة في هذا الاتجاه، لكن ينبغي أن تكون ضمن الأطر المحددة لهذه العضوية.
من هنا، يمكن النظر إلى توصل صندوق النقد الدولي، على مستوى الموظفين، إلى اتفاق مع السلطات الأوكرانية يمهد الطريق لكييف للحصول على برنامج قرض كامل. ومثل هذه الخطوات تدعم الاقتصاد الأوكراني لا شك، لكن تعزز المسار نحو انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. إلا أن المسألة ليست بهذه السهولة كما قد يبدو للوهلة الأولى. فمسيرة انضمام هذا البلد إلى الكتلة الأوروبية طويلة حتى إنها ستكون شاقة، لأنه مهما كان التعاطف الأوروبي مع كييف كبيرا، هناك قواعد صارمة بشأن العضوية في التكتل المشار إليه. وهذا ما أكده أكثر من مسؤول أوروبي، كانت آخرهم كاثرين كولونا وزيرة الدفاع الفرنسية. يؤكد صندوق النقد، أن برنامج الاختبارات الخاصة في كييف استمر أربعة أشهر، حيث وفت البلاد بأهدافه ومعاييره.
هذا يعد بمنزلة قفزة للاقتصاد الأوكراني، الذي تمكن في ظل حرب دائرة أن يحقق إنجازات بصرف النظر عن طبيعة أدواتها. فرغم تراجع زخم الصادرات، إلا أن الحكومة تنجح حاليا في زيادة إيرادات الضرائب، عبر سلسلة من القوانين المحلية المعززة لهذا الأمر. بل تقوم السلطات المختصة باستيفاء ضرائب متأخرة، يعتقد بأنها كبيرة من حيث القيمة. ومن النقاط المهمة أيضا، هي تلك الخاصة بالحوكمة، حيث بدأت الحكومة تعزيز هذا الجانب، الذي يمثل أحد أهم الشروط التي تضعها عادة المؤسسات الدولية المانحة. لكن، يبقى النمو والأسس السليمة التي سيقوم عليها بعد انتهاء الحرب، الأساس لعودة البلاد إلى ما قبل هذه الحرب، والإعداد للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بصرف النظر عن المدة التي تحتاج إليها للفوز بعضويته.
وفي كل الأحوال الاقتصاد الأوكراني يعيش حالة حرب، ربما ستكون طويلة، لكن يمكن حتى خلالها وضع القواعد اللازمة للانطلاق نحو آفاق التنمية في أعقاب المواجهة العسكرية الراهنة. وفق المؤسسات الدولية، يمكن أن تتم إعادة البناء ما بعد الحرب بفترة زمنية قصيرة، ليس فقط من خلال تعهدات الدول المتعاطفة مع كييف، والمؤسسات المدعومة عمليا من قبلها، بل عبر القدرات المحلية الأوكرانية في هذا الميدان. فالقطاع العام سيلعب دورا محوريا في إعادة الإعمار، خصوصا إذا ما نجحت الجهود المبذولة حاليا لتعزيز الشفافية والحوكمة والمحاسبة المالية الحقيقية.
إنشرها