Author

في بريطانيا .. أزمة سياسة واقتصادية

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"مؤسسة السوق اليسارية هي التي أطاحت بي من الحكم"
ليز تراس، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة
تعود ليز تراس إلى الأضواء وليس إلى الواجهة في بريطانيا، بعد أقل من أربعة أشهر على إزاحتها من الحكم كرئيسة لوزراء البلاد. وهذه السياسية المحافظة المتقلبة، دخلت التاريخ "كما هو معروف" على أنها رئيسة الوزراء التي خدمت أقصر مدة على الإطلاق لتسجل 44 يوما فقط.

ليس مهما هنا كم مكثت في داونينج ستريت، المهم كيف ولماذا خرجت بهذه السرعة، في الوقت الذي شهدت فيه المملكة المتحدة تغيير ستة رؤساء وزراء في ستة أعوام؟! هذا أيضا ليس معتادا في مثل هذا البلد.

وعودة تراس إلى الأضواء، جاءت هذه المرة عن طريق مقال طويل من أربعة آلاف كلمة في صحيفة "صنداي تلجراف" الجريدة الأشد دعما لحزب المحافظين على مر الأزمنة، والأكثر توزيعا بين الصحف التي توصف بـ"النوعية" في بريطانيا.
لا يمكن قراءة المشهد الاقتصادي الراهن في المملكة المتحدة بمعزل عن فترة ليز تراس القصيرة في الحكم. فضلت في اليوم الأول لوصولها إلى مكتبها أن تعلن ميزانية مصغرة تستند إلى عناصر محددة، لكنها ليست واقعية.

وهذه العناصر، هي: النمو، وخفض الضرائب، وإلغاء أعباء ضريبة أخرى عن الشركات. فهي تعتقد أن النمو لا يتحقق إلا بضرائب منخفضة، لكنها ضربت عرض الحائط بكل النصائح التي أتت من جهات مستقلة، بأن خفض الضرائب يحتاج إلى تمويل، وهذا التمويل ليس متوافرا في بريطانيا في الوقت الراهن إلا عبر الاقتراض، وبذلك فإنها تخفض الضرائب عن طريق الاقتراض! ماذا حصل؟ اهتزت السوق البريطانية بقوة، إلى درجة أن تدخل بنك إنجلترا المركزي لاحتواء الأزمة الناجمة عن الاقتراض ليس من أجل الإنفاق بل لخفض ضرائب، في وقت كان التضخم يرتفع بسرعة مذهلة في المملكة المتحدة خصوصا، في سياق ارتفاعه على الساحة الدولية عموما.
كل من يعتقد بأن ظهور ليز تراس الإعلامي الأخير هو مدخل جديد لعودتها إلى المعترك السياسي المباشر، غير عن كونها نائبة في مجلس العموم، يرتكب خطأ. لماذا؟ لأن الآثار الاقتصادية المخيفة التي تركتها في الميدان لن تسمح لها بهذه العودة.

صحيح أنها ليست مسؤولة عن كل المشكلات التي يواجهها الاقتصاد البريطاني، لكن الصحيح أيضا أنها أضافت إضرابات وعمقت مشكلات قائمة بالفعل، فضلا عن تراجع تأييدها ضمن نطاق قاعدة أعضاء حزب المحافظين.

فهذا الأخير لا يشهد الآن أزمة سياسية، بل أزمة سياسة، من خلال انقسامات متفاقمة ومتزايدة بدت واضحة بين ممثلي الحزب في البرلمان وأعضاء الحزب خارجه، بين التوجهات اليمينية فيه الأقرب إلى التطرف وبين أولئك الذين يعتقدون أنه لا بد من أن تقترب السياسة الحزبية نحو الوسط، لا باتجاه الليبرالية بالطبع. فهذه الأخيرة لا يمكن أن تنفع ضمن مفهوم هذا الحزب الحاكم منذ 2010.
أزمة السياسة هذه، مع أزمة اقتصادية معيشية اجتماعية جعلت الاقتصاد البريطاني أشد سوءا من الاقتصاد الروسي الذي يواجه الحصار والعقوبات.. تسهل الخطوات أمام حزب العمال المعارض للوصول إلى الحكم في أول انتخابات عامة مقبلة ستجري في غضون أقل من عامين. فحكومة ريشي سوناك الحالية تعرف تماما أنها لا يمكن أن تدعو إلى انتخابات عامة مبكرة، على الرغم من أنها لم تصل إلى الحكم عبر الانتخابات أصلا.

ولذلك فإنها ستنتظر حتى الموعد القانوني لهذه الانتخابات، على أمل أن تستعيد بعضا من الشعبية التي تفقدها، بما في ذلك تراجع حتى أعداد المؤيدين لانفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي "بريكست" الذين أوصلوا عمليا الحكومات البريطانية التي أتت بعد حكومة ديفيد كاميرون إلى الحكم.
لا يمكن لليز تراس العودة، لأن حزبها سيتكبد خسائر فادحة، وكذلك الأمر ينطبق على إمكانية عودة بوريس جونسون الذي خرج مطرودا أيضا لأسباب تتعلق بمخالفات لا تحصى للقوانين. وأزمة السياسة في حزب المحافظين ستتعمق في الوقت الذي لن يحظى فيه ريشي سوناك، بدعم قاعدة أعضاء الحزب له. أي أنه سيخوض الانتخابات العامة المقبلة إذا ما استمر في الحكم حتى دون هذا الدعم.

وليس أمام الحزب الحاكم سوى تخفيف حدة الخلافات حول السياسة، لأن ضربات الأزمة الاقتصادية لا تتوقف على الحكومة الحالية، التي أخفقت حتى في إبقاء بلادها ضمن الدول المتقدمة التي ستحقق نموا، ولو متواضعا في العام الحالي.

فالانكماش الذي دخل فيه اقتصاد البلاد بالفعل من المرجح أن يستمر حتى العام المقبل، ما يعني أن الأعباء الحياتية ستتواصل على كاهل الناخب البريطاني.
في ظل هذا المشهد تشهد حكومة سوناك مزيدا من المشكلات الداخلية التي تتعلق بوزراء أقل من رئيس الوزراء، منهم واحد هو ناظم الزهاوي الذي كان رئيسا لحزب المحافظين، بينما يواجه نائب رئيس الوزراء دومنيك راب، تحقيقات بتهم موجهة له بالتنمر على العاملين معه.

أي أن المشكلات ليست حكرا في نطاق الحزب، بل كذلك في ساحة الحكومة التي من المفترض أن تكون متماسكة بقدر الإمكان لمواجهة الاستحقاقات المقبلة.

إنشرها