Author

مفاهيم خاطئة في مسألة تضخم الأسعار

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد

هناك لبس كبير في مفهوم تضخم الأسعار نجده في كثير من الكتابات الصحافية وآراء بعض المحللين الاقتصاديين، وسبب اللبس أن كثيرين لا يفرقون بين مستوى الأسعار ونسب التضخم! هذه المقالة عبارة عن تعريف وتفسير لما تعنيه نسبة التضخم ومستويات الأسعار.
عندما يذكر في التقارير الرسمية والبيانات الصحافية أخبار عن انخفاض التضخم، يحصل هناك لبس في الموضوع، حيث يعتقد البعض أن المقصود انخفاض في مستويات الأسعار، بينما المقصود هو أن هناك تراجعا في تسارع نمو التضخم، أو بعبارة أخرى هناك انخفاض في نسبة ارتفاع الأسعار لهذه الفترة مقارنة بالفترة الماضية، أي تراجع في وتيرة الارتفاع.

البعض يعترض على الخبر بحجة أن الأسعار لم تنخفض، ويشيرون في ذلك إلى الأسعار العالية التي يرونها في كل مكان.

الحقيقة هي أنه رغم الاحتفاء بانخفاض التضخم وتصدر مثل هذه الأخبار الصحف والوسائل الإعلامية المختلفة، إلا أن الحقيقة المرة هي أن الخبر فعليا يقول إن الأسعار في ازدياد وليست في انخفاض. كيف يمكن تفسير ذلك؟
خذ مثالا على ذلك ما ذكره البنك الدولي في تقريره الأخير عن نسب التضخم للأعوام المقبلة، حيث ذكر أن التوقعات أن ينخفض التضخم العالمي من 8.8 في المائة 2022 إلى 6.6 في المائة في 2023، ثم إلى 4.3 في المائة لـ2024.

الترجمة الصحيحة لهذه التوقعات أن الأسعار ستزيد في 2023 "6.6" على مستوياتها الحالية، ثم بعد ذلك ستزيد في 2024 "4.3" في المائة. والتضخم كما هو معروف يقاس كنسبة ارتفاع أسعار سلة من المنتجات والخدمات من فترة إلى أخرى بطرق إحصائية معينة تأخذ في الحسبان وزن كل منتج أو خدمة في هذه السلة.
لتوضيح طريقة عرض بيانات التضخم وعلاقة ذلك بمستويات الأسعار، لو أن متوسط تكلفة سلة المنتجات والخدمات في 2021 كانت ألف دولار، فإنها قد ارتفعت في 2022 إلى 1088 دولارا، ولن تنخفض التكلفة في 2023، بل إنها سترتفع إلى 1160 دولارا، ثم سترتفع مرة أخرى في 2024 إلى 1210 دولارات، أي إن الأسعار ستواصل الارتفاع من عام إلى آخر.
لماذا إذن يتم نقل خبر التضخم هذا بأجواء إيجابية مفرحة في حين أن الأسعار في ازدياد؟
الخبر أعلاه إيجابي لأن نسبة الارتفاع آخذة بالتراجع من 8.8 إلى 6.6 في المائة ثم إلى 4.3 في المائة، وفي ذلك إشارة إلى أن وتيرة ارتفاع الأسعار مسيطر عليها وليست منفلتة، كما يحدث في بعض الدول التي تواجه ارتفاعات حادة في الأسعار من عام إلى آخر، بل من أسبوع إلى آخر في بعض الأحيان، كما في دولة تركيا ـ كمثال ـ التي ارتفعت وتيرة التضخم فيها من دون 10 في المائة 2020 إلى أكثر من 80 في المائة على أساس سنوي، قبل أشهر قليلة.
ما يبحث عنه الناس في أخبار التضخم هو ما يعرف بتراجع مستويات الأسعار، أو deflation، الذي في مثالنا السابق يكون صحيحا لو أن تكلفة السلة بنهاية 2023 تنخفض إلى 1050 دولارا، نزولا من 1088 دولارا في 2022، فتكون نسبة التضخم بهذه الحالة سالب 3.5 في المائة، أي تراجع حقيقي في مستويات الأسعار.

نسب التضخم المشار إليها في تقرير البنك الدولي تصف حالة تراجع وتيرة الأسعار، وليس مستوى الأسعار، وتسمى disinflation.
من المهم الإشارة إلى أن ظاهرة تراجع مستويات الأسعار deflation ليست محمودة ولا توجد دولة حديثة اليوم تتطلع إلى إحداث تراجع في مستويات الأسعار، بل إن النسبة المستهدفة لارتفاع مستويات الأسعار من عام إلى آخر في كثير من الدول هي 2 في المائة، وبالتالي فالمستوى المستهدف لتكلفة السلة المذكورة أعلاه هو 1020 دولارا في 2022، ثم 1040 دولارا في 2023، ثم 1061 دولارا في 2024، وفي هذه الحالة يعد مثل هذا الارتفاع طبيعيا ومطلوبا.
لم التخوف من تراجع الأسعار؟
في العرف الاقتصادي الشائع أن تراجع الأسعار ظاهرة سلبية لأن ذلك يحد من الإنفاق، أي إن الناس تحجم عن الشراء في حال تراجع الأسعار، وهذا يبدو أمرا غريبا لأنه من المفترض أن الناس تزيد من عمليات الشراء حين تتراجع الأسعار! لكن الذي يحدث بالفعل أن الناس تؤجل الشراء إن كانت الأسعار تتراجع من فترة إلى أخرى، على العكس تماما مما يقومون به في حال كانت الأسعار في ارتفاع متواصل، حيث يعجلون من عمليات الشراء.

ومشكلة الحد من الإنفاق أنه يضر بالحركة التجارية ويؤدي إلى خفض الإنتاج وضعف الاقتصاد، ويؤثر سلبا في أسعار الأصول والأوراق المالية.
ورغم كون تراجع الأسعار أمرا مذموما، بالذات من قبل البنوك المركزية التي تعتمد على التحكم بمستويات الفائدة ونسب التضخم في أداء أعمالها، إلا أن تراجع أسعار بعض المنتجات والخدمات يعد أمرا صحيا، كما يحدث نتيجة تحسن عمليات الإنتاج والاستفادة من التطورات التقنية، لذا فالمقصود بتراجع مستويات الأسعار السلبي هو الناتج عن التراجع الكلي للأسعار، الذي يحدث نتيجة اختلالات اقتصادية، كتراجع الطلب العام وتدهور محفزات النمو والإنتاج.
نسب التضخم في المملكة تعد من الأقل في العالم، فمثلا قبل أيام تم إعلان ارتفاع مستوى الأسعار بـ3.3 في المائة عن العام الماضي، وهو أعلى نسبة ارتفاع شهري على أساس سنوي، وهنا بالمناسبة نوضح أن المقصود بالمقارنة على أساس سنوي مقارنة سعر سلة المشتريات لهذا الشهر مقارنة بسعرها في الشهر المقابل من العام الماضي.
وأخيرا، لا يعني تدني نسبة التضخم في المملكة أن الأسعار تتراجع، بل إنها تزيد من عام إلى آخر، وقد زادت على العام الماضي بـ3.3 في المائة، ولو بقيت عند النسبة نفسها فستكون الأسعار العام المقبل أعلى من اليوم بـ3.3 في المائة.

كذلك يختلف تأثير ارتفاع الأسعار بهذه النسب من شخص إلى آخر، لأن سلة المشتريات المستخدمة في الحسابات مبنية على سلع وخدمات معينة وبأوزان معينة لا تتسق بالضرورة مع الأنماط الاستهلاكية لكل شخص.

إنشرها