ثقافة وفنون

«الجبانة» .. الزواج في رحاب الطبقة البرجوازية

«الجبانة» .. الزواج في رحاب الطبقة البرجوازية

تدور أحداث الرواية في المجر على ضفاف نهر الدانوب.

«الجبانة» .. الزواج في رحاب الطبقة البرجوازية

تتحدث الرواية عن الفراغ والعبث الذي تعيشه المجتمعات ذات الثراء الفاحش.

تثير فكرة الزواج جدلية في المجتمعات كافة، لاختلافها باختلاف الثقافات، وإن كانت ترنو في النهاية إلى تعزيز مفهوم واحد، يقوم على بناء الأسرة وتكوين العائلة، لكن في رواية "الجبانة" لشاركدي إمرة، الروائي المجري، عالجت مفهوم الزواج في رحاب الطبقة البرجوازية من زاوية غير نمطية، وكيف أن السعادة الزوجية لا تتحقق بالمال ولا بالهدايا، إذا ما فقدت العنصر الأساسي والأهم من إقامتها، وهو السعي إلى بناء أسرة متحابة متكاملة، تسهم في تطور المجتمع ونموه.
ترجمت الرواية إلى اللغة العربية مع المترجم نافع معلا، وتدور أحداثها في المجر، على ضفاف نهر الدانوب، وبطلتها امرأة مضطربة المشاعر والأفكار والتصرفات، تسيء إلى نفسها وزوجها وحياتها، وتعيش عقما من نوع آخر، فهي لا تحب ولا تعرف كيف تكون محبوبة، رغم أنها محاطة بمن أمن لها كل ما تحتاج إليه، لكنه لم يحقق لها السعادة التي لا تعرف كيف تحصل عليها.. أتعبها الحب كما أتعبها البحث عن الرضا الداخلي، فعاشت في متاهة لا تنتهي، واستسلمت لقدرها وقررت أن تنتظر الموت سبيلا للخلاص.
الهدايا اللغز
تبدأ الرواية بصورة إيفا، البطلة المحورية، وهي تراقب مجموعة الهدايا التي قدمها لها زوجها في عيد زواجهما، "إناء من الورد الأصفر، وساعة يد، وكتاب بالفرنسية لمؤلف مجهول اسمه لامارك"، ها هي قد بلغت الـ30، لا عمل ولا أطفال، ولا حب، زواج عقيم بكل ما للكلمة من معنى. تسعة أعوام تتلقى فيها هدايا لا تعجبها، فالورد باهت، والساعة أنتيكا، والكتاب لا قيمة له في نظرها، لأنه يبحث في أماكن بعيدة عنها، يهتم بقضايا الكائنات من العصور الغابرة، وهي مجرد امرأة عابرة، تبحث عما ينقصها بين جدران منزل فيه من مظاهر الرفاهية والغنى الكثير، لكنه يفتقر إلى الحب والعاطفة وكل ما يسهم في بناء علاقة عائلية ودية وحميمة.
امرأة فاشلة
تظهر الرواية إيفا امرأة فاشلة، لم تكمل دراستها في الطب، وقد تزوجت فنانا "بنتسه"، وفر لها كل ما تريد، ونحت لها تمثالا أثار استياءها، وتصفه بأنه "بقرة"، كما تصف زوجها بأنه "عديم الموهبة"، وهي لا تعمل غير الشراء والانطلاق بالسيارة على غير هدى بسرعة جنونية، وكأنها في حالة هروب دائم، لأنها جبانة، وتمر بعلاقات عابرة بلا أي قيمة. تعيش كذبة الزواج الناجح، تبحث في عيون الأصدقاء القدامى عن لفتة حنان تحتاج إليها حتى تشعر بأنها امرأة لها عواطف وأحاسيس، وليست مجرد كرسي مذهب في هذا المنزل الفخم، أو لوحة نفسية معلقة على جدار جامد لا يتحرك.
اعتادت فن الكذب كي تهرب من زوجها، تقول "إنها تريد زيارة أهلها"، فتغيب لأيام وأيام، أو أن "عطلا حدث لسيارتها" فتختفي لفترة، وكل هذه الأحداث تحمل رمزية توهانها، وبحثها الدائم عن شيء لا تملكه، هو الحب والعائلة والسعادة الحقيقية.
مفهوم العائلة
من أروع الصور التي تعد درسا مهما يريد الروائي إيصاله إلى القارئ، لحظة تتعطل سيارة "إيفا" وتبحث عن ميكانيكي لإصلاحها، وتلتقي "بيشتا" مهندسا كانت تعرفه أيام الدراسة، تحادثه وتتودد إليه، فيطلب منها الزواج ويمضيان معا فترة من الوقت على ضفاف نهر الدانوب، يطلب اصطحابها إلى المزرعة لكنها ترفض، فهي تمل حياة الأرياف، لكنه يصر على أن تشاركه الغداء مع المهندس الزراعي الذي يعمل في المزرعة وأسرته. هنا تتبدل الصورة، وتجد في جلوس المهندس الزراعي وزوجته وأولاده وكل من يعمل معهم في المزرعة حول مائدة الطعام، كأنهم أسرة واحدة يجمعها فرح واحد، ما يعيد إليها صور حياتها المبعثرة في ذاك المنزل الفخم. وهنا تظهر عظمة الكاتب في إظهار عمق المعاني التي تحملها الحياة الأسرية الناجحة، التي يحيطها الحب والوئام. لهذا تسعى إلى طلب الطلاق بعد عودتها إلى المنزل، لكن الزوج يرفض ويقول لها "اذهبي وعيشي مدة كما يحلو لك، لكنك ستعودين، لأني لن أتخلى عنك ولا أوافق على الطلاق".
بناء الأسرة
الرواية توحي بدروس كثيرة، يتركها الكاتب مفتوحة أمام كل قارئ، والدرس الأساسي المهم هو بناء الأسرة، خاصة بعد أن فقدت المدينة في الغرب تلك العلاقة الحميمة، وبقي الريف هو الملاذ الآمن، والحياة الزراعية وحدها حاضنة الأسرة. كما تشير الرواية إلى حالة البطر والفراغ التي يعيشها المجتمع الأرستقراطي، فالزوجة رغم أنها لا ينقصها أي شيء، وتم توفير كل احتياجاتها الأساسية والثانوية، المادية والروحية، إضافة إلى الحرية المطلقة التي يمنحها الزوج لها، ورغم الغنى الفاحش الذي تعيشه، إلا أنها تعاني حالة فراغ، تتنقل من علاقة محرمة إلى أخرى، باحثة عن طوق نجاة لحياة زوجية تمر فيها الأعوام كالدهور، رتابة في كل شيء، لا تحرك ساكنا، ولا تعرف طريقها إلى الحب الحقيقي.
فراغ المجتمع البرجوازي
تتحدث الرواية عن الفراغ والعبث اللذين تعيشهما المجتمعات ذات الثراء الفاحش، حياة بطر في كل شيء، وهذا ما جعل علاقة الزواج بلا رابط الحب، مجرد فراغ، تسلية، وتخضع لمبدأ المصالح والحسابات. إيفا المرأة المتحررة من كل شيء، تمارس الخيانة لمجرد التسلية ودون أي رادع أو تأنيب ضمير، ودون خجل أو ندم. هذا التحرر -بمفهومها الشخصي- لا يمكن أن يكون سببا في فض الشراكة المسماة زواجا بين الطرفين، وهنا تظهر طريقة التعامل والتفكير في المجتمع الذي تدور في خضمه أحداث رواية "الجبانة". وسواء اختلفنا مع وجهة نظر الروائي أم وافقنا نجد أنفسنا بطريقة أو بأخرى نتعاطف مع إيفا بطلة الرواية والراوي الرئيس للأحداث، بل نذهب إلى أبعد من ذلك، نتقبل جرأتها وحريتها العبثية، ونبحث في سرنا عن تبريرات غير منطقية لتصرفاتها الطائشة.
التمثال
شكل التمثال حيزا لا بأس به من أحداث الرواية، قد يعده البعض أحد أبطالها، لأنه يشكل عاملا مؤثرا في مجريات الأحداث، وكان له حضور في تطور ردود فعل الشخصيات، فالسبب الرئيس الذي عمل على إظهار رتابة العلاقة الزوجية هو التمثال، رفضته إيفا وبصقت عليه، وكانت ترى فيه بقرة حلوبة ليس إلا، لم تفهم الهدف الذي من أجله وضعه بسنته في منزلهما، نحت تمثالا لها، تعبيرا عن حالة الرفاهية التي يعيشها، وأيضا تعبيرا عن حبه وتقديره لزوجته التي ليس لها مثيل بين النساء، لكنها رفضته ووجدت فيه صورة مزعجة ومخيفة وكأنه عرى علاقتهما، فكل مسببات المشكلات تجمعت في هذا التمثال، ما دفع بالزوج إلى تحطيمه إرضاء لها. فهو بحث بجميع الوسائل عن الأفكار التي تحقق لها السعادة، لكنها وصلت إلى درجة من القناعة بعبثية الحياة التي تعيشها معه، ولجأت إلى بيشتا تعيش معه أياما أو شهورا، فيها شيء من السعادة التي تبحث عنها وتتمناها.
النهاية
تنتهي علاقتها بزميل الدراسة، لتبدأ من بعده علاقة مع أحد أصدقاء العائلة، تواصل حياتها الطائشة بلا مبالاة، تحاول أن تجد سعادة لم تعرفها يوما، تضحك على نفسها كي تكمل طريقها، تستسلم لواقعها وكأنه قدر.
وتنتهي فصول الرواية بتعرية إيفا على حقيقتها، لتبدو مجرد امرأة جبانة، تجول في كل مكان باحثة عن لا شيء، وتنتهي الرواية وهي تنظر إلى خيوط السجادة التي رسمت بإصبعها فوقها خطوطا عشوائية كحياتها، وتقول "إن ما أراه أمامي الآن سيبقى على الدوام هكذا، كما هو عليه، إلى أن أصبح عجوزا وأموت".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون