Author

بناء العقل .. الهدف الاستراتيجي الأهم

|
تهتم المجتمعات والشعوب الواعية بالعقل في بنائه، والمحافظة عليه من جميع العوامل والمتغيرات التي من الممكن أن تدمره وتضر به، وذلك لقيمة العقل في بناء الأمم وتقدمها ونمائها متى ما صلحت عقول المجتمع، ونمت بشكل سليم من خلال محاضن التربية داخل الأسرة، وفي المدرسة، ومن خلال جميع الوسائط، كالإعلام، والمناشط الثقافية، والفكرية، سواء الرسمية، أو الاجتماعية، وشبه الرسمية باستضافة المفكرين والمثقفين وذوي الخبرة في مجال تخصصي يهم الناس، أو فئة منهم، الغرف من معين المتخصص.
وقد عني الإسلام بالعقل، وضرورة الاهتمام، والعناية به لأنه مناط التكليف، ويسقط باضطراب العقل، وعدم سوائه، ودعا القرآن إلى التفكر في الكون، والمخلوقات، كما اهتم علم النفس بالعقل ومكوناته، وآليات عمله، والمعوقات التي تؤثر في أدائه السوي، ونتج عن جهود العلماء كثير من النظريات بشأن العقل، كما أولوا اهتماما كبيرا بنوع الخبرات والمعارف الواجب تعريض الفرد لها منذ الصغر حتى صيغت عبارة "العلم في الصغر كالنقش على الحجر" لما لأعوام الطفولة من أهمية، وقيمة في بناء جميع القدرات الواجب نموها، ورعايتها، حتى يستفيد المجتمع من أفراده كافة، حسب ما تشكل لديهم من قدرات.
الفلاسفة منذ فلاسفة اليونان، كأرسطو، ومرورا بالفلاسفة المسلمين، كالفارابي، حتى الفلاسفة المعاصرين اهتموا بالعقل من حيث ماهيته، وتكوينه، وأنواعه، ومبادئه، وذلك لقيمته في التمييز بين الحق والباطل، وبين المفيد والضار، واكتشافه الفروق بين الأشياء في خصائص.
كما تكمن ميزة العقل في تميز الإنسان به بين المخلوقات كافة، وتجدر الإشارة إلى أن تطور المعرفة، وتوافر المختبرات والمعامل مكنت الباحثين المهتمين بالعقل بإجراء التجارب التشريحية والسلوكية بهدف اكتشاف خصائص العقل، وبالذات النواحي البنيوية، وعلاقته بالحواس والجهاز العصبي، وهذا وفر معرفة عميقة وشاملة.
بعض المفكرين يربط العقل في أدائه من حيث الجودة والضعف، بالأداء في الدين والتراث كمرجعين مفسرين للأداء العقلي، حتى إن بعضهم يشتط ليدعي أن الأديان والنصوص الدينية ذات أثر سلبي في العقول مدللين على ذلك بالتخلف المادي الذي يعانيه بعض المجتمعات، ومثل هذا الزعم يفتقد الدليل المادي القائم على التجربة والبرهان، فكثير من مجتمعات العالم على اختلاف أديانها برز فيها علماء ومفكرون ومخترعون، ومن بين هؤلاء أناس متدينون أشد التدين، وقد ألف ابن تيمية كتابا بعنوان، "درء تعارض العقل والنقل"، أو "موافقة صحيح المنقول بصريح المعقول"، كما أولى كثير من العلماء والمفكرين عناية كبيرة لدراسة العقل وعلاقته بمكونات الثقافة، حتى إن بعضهم ليلقي اللوم على الثقافة، ويرى ضرورة التخلي عنها والتخلص منها، في حين يرى فريق آخر أن مراجعة الثقافة وتشذيبها والتخلص من مكوناتها السلبية، السبيل لنمو العقل بصورة سليمة.
من الأدبيات الشائعة لوصف الفرد في عقله قولهم متحرر، منفتح، منغلق، متحجر، متقلب، متعصب، لماح، عميق، شمولي، جزئي، متأن، مندفع، متهور، رزين، ناضج، ذكي، غبي، ومتبلد، وهذه نراها في واقع الحال على أداء الأفراد، ولذا يتفاوت الناس في إنجازاتهم وتعاملهم مع الآخرين، وفي ترتيب وتنظيم حياتهم، والقرارات والخيارات التي يتخذونها. ومهما يكن الأمر، فالعناية بعقول الناشئة وحمايتها وبذل الجهد لبنائها البناء السليم تمثل هدفا استراتيجيا تسعى الأمم إلى تحقيقه، لما في ذلك من نتائج مبهرة صناعة، وتجارة، واقتصادا، واستقرارا اجتماعيا.
إنشرها