Author

اقتصاد مهيكل لكن المعادلة صعبة

|

لا شك أن هناك علاقة بين التضخم وزيادة عرض النقود، وقد قال ميلتون فريدمان المنظر الأمريكي للنظرية النقدية، إن التضخم ظاهرة نقدية، وعندما تواجه الدول شبح الانكماش لأسباب مختلفة، فإن البنوك المركزية تعمل على زيادة المعروض النقدي من خلال تخفيض سعر الفائدة، ومن خلال زيادة عروض النقود عموما، وفقا لاستراتيجيات مختلفة، هذا ما حدث طوال عقد كامل منذ الأزمة المالية العالمية، فلم يكن أمام العالم من حل لتجنب كساد عظيم آخر، إلا السياسات الكنزية القديمة، باستخدام مفهوم زيادة ضخ النقد في عروق الاقتصاد، فهناك اعتقاد سائد بأن السياسة النقدية كانت المصدر الوحيد للتضخم الأخير، فأسعار الفائدة الاسمية قصيرة الأجل عند مستوى الصفر استمرت سبعة أعوام "من أوائل 2009 إلى أواخر 2015"، ونمت الميزانية العمومية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وهو القاطرة الرئيسة للاقتصاد العالمي من 900 مليار دولار في آب (أغسطس) 2008 إلى أكثر من أربعة تريليونات دولار.

الجميع كان يعرف هذه المرة أن التضخم هو المرحلة المقبلة، لذا أسهمت بعض السياسات في تأخير هذا الألم والجرح في صدر المؤشرات الاقتصادية حتى نهاية العقد الثاني من هذا القرن، لكن الأزمة الصحية أفسدت كل تلك السياسات، ولتجنب الآثار التي تسببت فيها هذه الأزمة العميقة، كان النهج يعتمد على زيادة الدعم والحفاظ على الزخم رغم الإغلاقات الاقتصادية، وما إن تلاشت الأزمة حتى أصبح التضخم واقعا حقيقيا في الاقتصادين الأمريكي والأوروبي، ثم زحف على جميع العالم بوتيرة متصاعدة، فقد كانت تنبؤات صندوق النقد الدولي التي نشرها في تقاريره عن آفاق الاقتصاد العالمي تشير إلى أن التضخم العالمي سيرتفع من 4.7 في المائة في 2021 إلى 8.8 في المائة في 2022، ليتراجع لاحقا إلى 6.5 في المائة في 2023، و4.1 في المائة في 2024.

وطالب الصندوق صناع السياسة النقدية باستعادة استقرار الأسعار، وتشديد السياسة النقدية.
تأتي هذه التوصيات المتشددة على الرغم من معرفة الجميع أن رفع أسعار الفائدة وتشديد السياسات النقدية من أجل قمع التضخم، يؤديان إلى الركود، وتبعا لذلك وبعد سلسلة متواصلة مع رفع أسعار الفائدة الأمريكية بأسرع وتيرة شهدتها منذ الثمانينيات من القرن الماضي، سجل أكبر اقتصاد في العالم نموا بـ2.1 في المائة لـ2022 بأكمله، بتراجع عن ذلك المسجل في 2021، وفق معطيات وزارة التجارة الأمريكية، وانخفاضا من 5.9 في المائة في 2021، وبناء على هذا الاتجاه، فإن تقريرا نشرته "الاقتصادية" عن حالة الاقتصاد الأمريكي يشير إلى أن الربع الأول من هذا العام قد يكون آخر ربع يحقق فيه الاقتصاد نموا، بينما يتوقع معظم الاقتصاديين أن يشهد النصف الثاني من العام ركودا، إلا أنه سيكون متوسطا، مقارنة بنوبات ركود سابقة، وهكذا يمكن القول، إن التباطؤ في الاقتصاد الأمريكي قد يكون مخططا له بدرجة كبيرة، وليس مفاجئا للاقتصاد الأمريكي، إلا أن ملامح التورط في الركود قائمة أيضا.

لقد أدى ارتفاع التضخم -أعلى معدل منذ الثمانينيات من القرن الماضي- إلى سوء الحالة المزاجية لكثيرين من الأمريكيين، وأصبح بعضهم يعتمدون على سياراتهم الخاصة بمعدل أقل لتوفير البنزين، ويتخلون عن المنتجات العضوية باهظة الثمن، ويبحثون عن صفقات لتوفير بضعة دولارات.
ومع هذه المعطيات، فإن معالجة التضخم تسير بخطى صحيحة ذلك أن التقارير تشير إلى تراجع مبيعات التجزئة وانخفاض مبيعات المنازل 35.4 في المائة، وتراجع الطلب على السلع المعمرة، بينما استنفد بعض الأسر، ولا سيما منخفضة الدخل، مدخراتها، وفقد إنفاق الشركات بعض قوته هو الآخر مع نهاية الربع الرابع من 2022، لكن في مقابل ذلك بقيت سوق العمل قوية فقد أظهر تقرير منفصل من وزارة العمل انخفاض عدد الطلبات الجديدة للحصول على إعانة البطالة ستة آلاف طلب إلى مستوى معدل لاستيعاب العوامل الموسمية قدره 186 ألفا خلال الأسبوع المنتهي في 21 كانون الثاني (يناير).

فالتباطؤ المخطط له لا يسمح للاقتصاد بالانجراف نحو الركود الواسع أو الكساد، فهو يوازن بين خفض معدلات الشراء مع بقاء معدلات التوظيف عند مستويات تحافظ على الطلب، وكما قالت وزيرة الخزانة الأمريكية، إنه عندما تكون لديك سوق عمل توجد أكثر من 400 ألف وظيفة شهريا، فهذا ليس ركودا.

هذه معادلة صعبة للغاية، وقد لا يتمكن من تنفيذها إلا اقتصاد مهيكل بدرجة عالية مع توافر بيانات عالية الدقة وفورية تحقق مراقبة جيدة لردة فعل جميع الأطراف.
حتى الآن تبدو الخطة الأمريكية فاعلة رغم أن التضخم لم يعد بعد إلى هدفه المقرر تحت معدل 3 في المائة، لكن هناك معطيات كثيرة جيدة كما أشرنا، لقد بنى صناع ومشرعو السياسة الأمريكية قراراتهم من فهم دقيق للمعطيات وللأسباب الكامنة خلف ارتفاع الأسعار، لكن مع ذلك يبقى السؤال حول مدى قدرة صناع السياسة النقدية الأمريكية على الاحتفاظ بتباطؤ مخطط له قبل أن يغرق الاقتصاد في ركود يصعب الخروج منه، البعض يتوقع أن يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة بحلول نهاية 2023، والبعض يتوقع أن يكون ذلك في 2024. لكن السؤال المطروح من كثير من الاقتصاديين، خاصة الأمريكيين منهم، هل تتجه الولايات المتحدة إلى حالة ركود وانكماش اقتصادي "خطير" أم هبوط سلس؟

إنشرها