دروس الحياة يقدمها طبيب يحتضر
عندما يتغير الموقع من فاعل إلى مفعول به، ويتبدل المركز من طبيب أعصاب إلى مريض بسرطان الرئة، ويتحول من شاب حالم مقبل على الحياة إلى عليل يصارع الموت، فحتما ستختلف الرؤية نحو الذات والغير وحتى العالم، لأن حياة الإنسان برمتها انقلبت رأسا على عقب. بذلك يصبح المستقبل مفتوحا على أكثر من احتمال، فالتشاؤم والتفاؤل قرينان في هذه الحالة، تبقى الكلمة الفصل للمرء، قصد اختيار أحد السبيلين في بقية أيام حياته.
يروي الكاتب الأمريكي بول كولانثي تفاصيل اختياره، في مذكرات تسرد وقائع قصته من طبيب يعالج من يواجهون الموت إلى مريض يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة، بعنوان، "عندما تتحول الأنفاس إلى هواء، اجعل لحياتك معنى قبل فوات الأوان"، بأسلوب زاوج بين البساطة والإمتاع، مستثمرا تقلبت أحوال الكاتب، بين الطبيب والمريض، في إنتاج كتاب تأملي يتحدى الموت، بإثارة أسئلة وجودية كبرى عن جدوى الحياة؟ وعن دواعي استحقاق العيش في مواجهة الموت؟ وما العمل عندما لا يصبح مستقبلك سلما نحو أهدافك في الحياة، بل مجرد امتداد لحاضر دائم بلا مستقبل؟
تبدأ الحكاية في عمر الـ36 عاما، على مشارف الانتقال من طالب طب إلى أستاذ جراحة أعصاب، بعد عشرة أعوام من التدريب القاسي، حين اكتشف بول بأنه مصاب بسرطان الرئة من الدرجة الرابعة، ما يضع نهاية للمستقبل الذي تخيله دوما، إذ تبخر فجأة كفاح عقود من أجل حلم على وشك التحقق. وحضر التفكير في المجهول بديلا عنها، بأعمال النظر في مسائل وجودية مثل "ما الذي يجعل للحياة مغزى وجدوى، إذا كانت جميع المخلوقات ستفنى في النهاية؟"، والبحث عن جواب للمفارقة المشهورة، "إذا لم تكن الحياة التي لم تدرس تستحق العيش، فهل تستحق الحياة التي لم تعش الدراسة؟".
يقال إن العلاقة مع الموت تخلص تاريخ الإنسانية، وما قصة بول سوى مثال عن هذه الحقيقة، حيث كتب يقول، "بدأت أدرك أن مواجهتي حقيقة فنائي كإنسان لم تغير شيئا في حالتي، لكنها في الوقت ذاته قد غيرت كل شيء في حياتي، فقبل أن يتم تشخيص إصابتي بالسرطان كنت أعرف أني سأموت يوما ما، لكنني لم أكن أعرف متى، أما بعد التشخيص، فقد عرفت أنني سأموت يوما ما، ولم لكن أعرف متى، لكنني عرفت ذلك يقينا الآن، حيث كانت كلمات صمويل بيكيت تتردد في ذهني بلا توقف، حين قال، لا يمكنني الاستمرار. لكني سأستمر".
فعلا، سعى الكاتب جاهدا إلى الإقبال على الحياة في تحد قوي للمرض، وبلا خوف ولا وجل من الموت، فالحياة الحقيقية ليست في تجنب المعاناة، وإنما في الكفاح. ونجح، بحكم انتقاله من فاعل إلى مفعول به، في تحويل تأملاته الفكرية إلى حطب، يوقد شرارة قصته، ففي غمرة الاستغراق في التفاصيل يواجه القراء بأسئلة موجعة عن مسار ومسيرته، - وكأنه يخبرهم بأنهم مشاريع أبطال محتملين - حيث يتساءل، "لماذا أصاب بالسرطان أنا على وجه التحديد؟"، وينتقد ذاته التي استحلت دورها القديم، فيقول، "لماذا كنت حازما في معطف الجراح، بينما كنت وديعا في ثوب المريض؟".
واصل الكاتب مكاشفته في يوميات سرير الموت، والعبارة هنا للروائي المغربي محمد خير الدين، بالحديث عن تصوراته القبلية للمرض والمرضى، "كنت دائما أتخيل أن عمل الطبيب يشبه وصل قضيبين من قضبان السكك الحديدية أحدهما بالآخر، ما يوفر للمريض رحلة سلسة من المرض إلى التعافي. ولم أكن أتوقع احتمالية أن تكون مواجهتي لموتي مربكة". وعن مسوغات ولوجه عوالم الأدب فرارا من الضياع في أرض موته الخالية من الملامح، والتيه وسط أكوام من الدراسات العلمية والمنحنيات اللانهائية لإحصاءات النجاة من سرطان الرئة. فالأدب هو ما أعاده إلى حياته، فالمرض جاء للتأمل والكتابة عن الخبرات الغنية التي اكتسبها، لذا احتاج إلى الكلمات لكي يمضي في طريقه.
المذكرات أشبه بقفزة من سماء الأطباء إلى نحو جزيرة المرضى، بتقديم منظور طلاب إلى الطب، بالتعامل مع الجثث كأشياء، في المشرحة، بتقطيعها حرفيا إلى أعضاء وأنسجة وأعصاب وعضلات.. بعد سلخ الأطراف واستخراج الرئتين وشق القلب واستئصال الكبد، يصبح من الصعب تخيل أن كومة الأنسجة هذه كانت إنسانا. هكذا يتحول معمل التشريح إلى مكان للشعور بالسعادة بدلا من كونه فضاء لانتهاك المحرمات، لأن رؤية الجسد الإنساني كشيء أم آلة هي الجانب الآخر لمحاولة تخفيف المعاناة البشرية الأكثر تعقيدا.
في الزاوية الأخرى، يعرض الأمر من موقعه كمريض حين نزل في غرفته في المستشفى، وهي الغرفة ذاتها التي قابل فيها مئات المرضى، على مدار أعوام، عندما كان طبيبا مقيما. "ففي هذه الغرفة، جلست مع كثير مم المرضى، وشرحت لهم تشخيصات حالاتهم النهائية، والعلميات المعقدة، وفيها أيضا هنأت بعض المرضى بشفائهم من أمراضهم، ورأيت السعادة في عيونهم لعودتهم إلى الحياة مرة أخرى".
نجح بول في تجاوز لعنة السرطان التي ألزمته بإيقاع خاص لحياته، ألا وهو التفكير في الموت دائما، مع عدم السماح له في الوقت نفسه بإعاقة حياته عن التقدم. خاصة بعد إدراك أنه "إنسان ممزق"، فهو طبيب ومريض في آن واحد، ما حتم عليه النضال ومواجهة الموت، قصد إعادة بناء حياته القديمة أو ربما بناء حياة جديدة. لأجل ذلك فضل الوفاء للاستمرارية، متجاهلا تقلبات المرض بين تقهقر وتقدم، فعاد إلى مزاولة عمله كطبيب جراح للأعصاب، وقرر مع زوجته إنجاب طفل في أوجه معركته مع السرطان.
قهر بول بهذه القرارات "المغامرات" المرض اللعين، بإصراره الشديد على التكيف معه، "سأرغم نفسي على العودة إلى غرفة العلميات. لماذا؟ لأنني أستطيع، ولأن هذا هو أنا. ولأنه سيكون علي أن أتعلم العيش بصورة مختلفة عن التي ألفتها، وأن أرى الموت زائرا حتميا متجولا، لكنني أعلم أنه إذا كنت سأموت، فإنني ما زلت على قيد الحياة إلى أن أموت فعلا".
وعكس التقلبات السلبية كان لتحوله من زوج إلى أب بالغ الأثر في حياته، وبدا ذلك في الرسائل التي تركها لابنته التي ولدت في غرفة، بعد 200 متر من غرفة وفاة والدها، بعد ثمانية أشهر، في التاسع من آذار (مارس) 2015، "أتمنى ألا تتجاهلي حقيقة أنك ملأت حياة رجل أشرف على الموت ببهجة كبيرة، بهجة لم يدقها في أعوامه السابقة، لكنه لا يطمح إلى مزيد منها، بل يشعر بالرضا والراحة لما ناله منها، وهو شيء عظيم في هذه اللحظات من حياتي".
تولت زوجة بول إتمام الكتاب تنفيذا لرغبته، في نقل صفحات مؤلمة عن أيام احتضاره، حين تحدى السرطان بإعلان استعداده للموت، مع الرغبة الشديدة في فهم تفاصيله ومقاومته وتقبله كطبيب ومريض أيضا. أراد الراحل بذلك، مساعدة الناس على فهم الموت، ومواجهة حقيقة أنهم سيموتون ذات يوم. طموح صعب كان شعاره نحو تحقيقه "إذا كان عليك أن تتيقن بأنه ليس بإمكانك الوصول إلى حد الكمال، فإنه يجب أيضا أن تؤمن بوجود نقطة تقترب من المثالية، وعليك أن تناضل للاقتراب منها قدر الإمكان".