Author

التعليم المحاسبي لم يعد ثانوية تجارية

|
عضو اللجنة المالية والاقتصادية ـ مجلس الشورى

كان أول ظهور حقيقي للتعليم المحاسبي في مدرسة وارتون في 1883، وللحقيقة لم يكن علما بل مجرد تدريب على الدورة المحاسبية، حيث تشير أبحاث تاريخ التعليم المحاسبي إلى أن ذلك التدريب جاء فقط بطلب من كلية الفنون، وفي 1887، تم إنشاء أول منظمة مهنية للمحاسبين في الولايات المتحدة تسمى الجمعية الأمريكية للمحاسبين العامين AAPA، ثم في 1896، أقر قانون ولاية نيويورك بأن لجامعة ولاية نيويورك تقديم شهادة المحاسبة العامة للأفراد الذين تزيد أعمارهم على 21 عاما، ويتمتعون بسمعة جيدة عن طريق امتحانات لذلك الغرض، وبهذا ظهر لقب "محاسب قانوني معتمد".
من الواضح جدا أن المحاسبة في الولايات المتحدة كانت تحاول رسم مهنة المحاسبة على غرار مهنة المحاماة، ولذلك ركزت على التدريب والترخيص المهني أكثر من العلم نفسه، وعلى أساس أن هذه المهنة فن يكتسب من خلال التدريب والممارسات وليس من خلال النظرية والمفاهيم المستقرة، وهذا الاتجاه تسبب في تأخير ظهور أقسام المحاسبة حتى منتصف القرن الـ 20، لكن لم يكن ذلك هو السبب الوحيد فلقد حاولت المهنة من خلال جمعية AAPA، إغلاق الفجوة العلمية من خلال إنشاء مدرسة للمحاسبة في تشرين الأول (أكتوبر) 1893، وسميت مدرسة نيويورك للحسابات، وشرط على المتقدم أن يكون خريجا من جامعة، لكن المدرسة فشلت لقلة الطلاب وعدم قبولها من مجتمع الأعمال، هذه التجربة السيئة تسببت أيضا في تأخير دخول علم المحاسبة للجامعات وإنشاء أقسام المحاسبة خوفا من عدم وجود طلب.
الأمر الثالث أن مناهج المحاسبة المبكرة كانت موجهة نحو اجتياز امتحان CPA، وكان المعلمون يركزون على التدريب الفني وإتقان إجراءات المراجعة والمحاسبة باستخدام الخبرة العملية، هذه الأسباب جميعها قادت إلى تأخر الاعتراف بالمحاسبة كعلم حتى منتصف القرن الـ 20 تقريبا، وتأخر فتح أقسام المحاسبة في الجامعات حتى أخذت كلية لندن للاقتصاد على عاتقها تلك الخطوة المهمة، وذلك من خلال تعيين البروفيسور ويليام باكستر في أول كرسي محاسبة بدوام كامل في بريطانيا، وهنا يجب لفت نظر القارئ إلى أن تبنى كلية لندن للاقتصاد للمحاسبة لم يكن بلا دلالة موضوعية كبرى، لقد استشعر علماء الاقتصاد ضرورة تطوير علم المحاسبة، لكن لماذا حدث هذا التطور؟
هذا السؤال نشأ بعدما بدأت الجامعات البريطانية والأمريكية تدريس المحاسبة في الجامعات، وبدأت أقسامها تظهر للوجود، لقد كان التعليم المحاسبي تدريبا قبل الالتفاتة المهمة لعلماء كلية لندن، وكان هناك إصرار من المهنيين على أن المحاسبة مهنة مثل المحاماة، وكان ينظرون إلى أنفسهم "كقانونيين" أكثر منهم اقتصاديين وماليين، ويرون أنفسهم أصحاب رأي قانوني، ولهذا تجاهلوا وجهلوا عن عمد كل المحاولات التي تسعى إلى تطوير مفاهيم ونظريات للمحاسبة تشتق من علم الاقتصاد وأهمية الأرقام المحاسبية ودورها كمعلومات لها تأثيرها في القرارات الاستثمارية، غني عن القول إن سبب هذا الدفاع هو اعتقاد سائد بأن تحويل مهنة المحاسبة إلى علم، سيتسبب في تراجع دخل المحاسبين فيما لو تمت إزالة هذه الصفة المهنية عنهم، لهذا نشأ صراع طويل بين الأكاديميين وبين المهنيين شدا وجذبا، وكانت الأزمات المالية التي تسببت فيها القوائم المالية تحفز الأكاديميين على نقد الإجراءات القائمة، ومع كل انهيار للشركات بسبب القوائم المالية غير المنضبطة بالمعايير التي تحكم آليات قياس وإيصال المعلومات المحاسبية، يتزايد الصراع ويتزايد النقد والمطالبة بإطار مفاهيمي واضح، وفي 1940، نشرت جمعية المحاسبة الأمريكية AAA دراستها الشهيرة والمؤثرة رقم 3، "مقدمة لمعايير محاسبة الشركات"، ونشرت عدة دراسات أخرى حول مدى مناسبة القياس المحاسبي وفقا للتكلفة التاريخية، وتطلب الأمر نقاشا فلسفيا للأصول والعناصر الأخرى، لكن مع ذلك وبسبب ممانعة المهنيين لم يظهر الإطار المفاهيمي للمحاسبة إلا متأخرا، وبعد عدة فضائح مالية كبرى كانت المحاسبة سببا أساسيا فيها.
من خلال فهم هذه الرحلة التي امتدت زهاء 90 عاما، فإن أي تطوير في مهنة المحاسبة سيأتي حتما من الجانب الأكاديمي، من الأبحاث ومعامل الدراسات، لن يكون هناك تطوير جوهري من الجانب المهني نفسه، إلا إذا ـ وإذا فقط ـ تم ضبط ذلك التطوير بمنهجية عملية قام بها أساتذة متخصصون في البحث العلمي، لقد أيقنت كل الدول المتقدمة في مهنة المحاسبة هذه العلاقة بين البحث العلمي وبين المهنة، ولهذا حافظ كل طرف على جانبه ودوره، وأي عودة إلى هيمنة المهنيين على البحث العملي وأشكال التدريس المحاسبي، فإنها ستقود حتما إلى تراجع خطير في مدى مناسبة المعلومات المحاسبية لتطورات القرار الاقتصادي، وحتما سيقود الوضع حينها إلى انهيارات مالية كبرى، ويجب أن يبقى التعليم المحاسبي مستقلا عن القرار المهني، وألا يكون خاضعا له بأي شكل وإلا، فإنه ستتم إعادة التعليم المحاسبي إلى مدارس ثانوية تجارية تسعى فقط إلى تخريج طلاب قادرين على تجاوز الاختبار المهني الذي يصبح مقياسا لمدى نجاح التدريس المحاسبي، وهذا تراجع خطير ومؤثر، ذلك أن الاختبار المهني يجب أن يكون خاضعا إلى تطورات العلم المحاسبي وليس العكس.

إنشرها