Author

نظرات في مستقبل الدولار

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا

الدولار الأمريكي هو العملة العالمية المسيطرة عبر عقود. ويتساءل كثيرون عن مستقبل هذه الهيمنة. ويزيد من طرحها حصول ظروف، كالأزمة المالية العالمية في 2008، وما يشهده العالم هذا العام من مشكلات اقتصادية عالمية، على رأسها التضخم، ودور الدولار فيه.
مستقبل الدولار البعيد أي بعد عشرات الأعوام فأكثر أمر غيبي تماما، لا أحد عنده توقعات معتبرة. أما في المستقبل القريب فتوقع انتهاء هيمنته مستبعد. ولا يعني ذلك عدم تعرضه لحالات طلوع أو انخفاض نسبي. هناك خلافات حولها بين المتخصصين من أهل العلم. ويعتمد إبداء الرأي على رؤى الواحد على جوانب الموضوع، خاصة لدور الدولار في الأسواق المالية العالمية.
الدولار هو العملة المهيمنة عالميا في الصفقات المالية والدفع والتسويات، ومن ثم فالمجال قائم حاليا وفي المستقبل المنظور لمزاحمة عملات أخرى، لكنها مزاحمة تقلل من هيمنة الدولار دون أن يصل إلى حد الانهيار. وحصل ذلك قبل أعوام قليلة، حيث كان اليوور مسيطرا في تعاملات العالم مع دول اليورو.
السؤال، لماذا لم تستمر سيطرة اليورو؟
خلاف الصفقات، هناك دور العملة الاحتياطي، بما يعني أنه مخزن للقيمة. وهو دور تفوق فيه الدولار على غيره من العملات حتى في ظل الأزمة المالية العالمية. سبب تفوق الدولار ضعف العملات الأخرى في كونها مخزنا للقيمة. وما زال الأمر كذلك. لذا فإنه متوقع تكرر الأمر حاليا مع عملات أخرى، كالرنمينبي Renminbi. واليوان الصيني وحدة أساسية له.
بدأت هيمنة الدولار قبل الحرب العالمية الثانية. وزادت بقوة بعد الحرب، وما تلاها من تطورات في التجارة والتبادلات المالية بين الدول. هو العملة التي يتم بها تداول عديد من المواد الأولية وعلى رأسها النفط الخام.
هيمنة الدولار تتضمن أنه العملة الثانية في الدول بشكل غير رسمي. وفي الدول التي بحكم المنهارة اقتصاديا هو العملة الأولى. ويمثل الدولار الأمريكي عملة الاحتياطي الأولى، حيث يشكل نحو ثلثي احتياطيات النقد الأجنبي في العالم و80 في المائة من مبادلات سعر الصرف الأجنبي. وأكثر من 50 في المائة من صادرات العالم يتم دفع قيمتها بالدولار بما فيها البترول.
ولم يؤثر في هيمنته إلغاء ربط الدولار بالذهب، تحت ما يسمى صدمة الرئيس الأمريكي نيكسون. وهي تدابير اقتصادية في 1971، وأهمها كان إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب. وللعلم، هناك دول عديدة أطلقت على عملتها اسم دولار مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا.
متوقع في المستقبل القريب أن تقلل عملات رئيسة من هيمنة الدولار. كيف؟ هناك قوى اقتصادية كبيرة صاعدة بقوة، مقابل مشكلات كبيرة في الاقتصاد الأمريكي. ربما كان أوضحها ضخامة عجز ميزانية الحكومة الفيدرالية الأمريكية والعجز التجاري.
إبان عمق الأزمة المالية العالمية، وإبان الأزمات منذ 2020 ارتفع سعر الدولار، حيث كانت أوراق الخزانة الأمريكية ملاذا آمنا في ظل اضطراب الأسواق المالية العالمية وتدهور أسعار الأصول.
حصلت انخفاضات في قيمة الدولار منذ 2002. ثم حصلت تطورات فارتفع سعر الدولار. وهذا يزيد من تعقيد البحث والنقاش في مستقبل الدولار.
مثلا، بعد أزمة 2008 وما اتخذ من خطوات لتقليل أثرها، كخفض الفائدة، ارتفعت أسعار الأصول ذات المخاطرة العالية نسبيا، كالأسهم والنفط والذهب، وسلع أولية أخرى. وجاء هذا الارتفاع نتيجة تفاؤل بأوضاع الاقتصاد العالمي. السندات الحكومية ارتفعت قليلا، لكنها ما زالت في حكم المستقرة. ومن المحللين من يرى أن ارتفاع أسعار الذهب يعكس تخوفا لا حقائق. وليس هناك ما يدل على أن هذا الخوف شائع، فتوقعات التضخم تفهم من الفجوة في العائد بين الأوراق المالية التقليدية والأوراق المالية المحمية تجاه التضخم بنوع ربط قياسي.
عندما خفضت أمريكا معدلات الفائدة قبل أعوام، السؤال ما كان تأثير ذلك في الدولار؟ توجهت البنوك المركزية وشركات المال والمستثمرون حول العالم، إلى العمل على التخفف من الدولار بسبب انخفاض الفائدة أو العائد الاسمي، الذي وصل إلى نحو الصفر، فكيف لو احتسبنا العائد الحقيقي. وانخفاض الفائدة تزامن معه بطبيعة الحال وفرة العرض من الدولارات. بالمقابل، زادت أهمية اليورو.
طبعا تعمل السلطات الأمريكية منذ عقود من الزمن على تحويل النحاس إلى ذهب، أي تصنيع تريليونات من الدولارات بأكثر من صورة، بهدف تحفيز الاقتصاد الأمريكي. وكما للأدوية آثار جانبية، هذه السياسة لها آثار جانبية، وعلى رأسها التضخم. ومحاربة التضخم في الوقت الحاضر عبر رفع الفائدة تجلب قدرا من الانكماش.
لم يعد الاقتصاد الأمريكي معتمدا أو مسيطرا على التصنيع التحويلي، بل تحول إلى اقتصاد تهيمن عليه خدمات بعينها. وتضعف في اقتصاد من هذا النوع القدرة السابقة على توليد الثروة "العينية"، التي يستعاض عنها بالتضخم في أسعار قطاع العقارات مثلا.
ومع هذه التحولات في الاقتصاد الأمريكي نشهد تحولات من نوع آخر، انخفاض نصيب أمريكا في الناتج المحلي العالمي، وتحول الصين إلى مصنع العالم.
ورفعت الصين صوتها عاليا عدة مرات مطالبة بعملة احتياطي غير الدولار. وطرحت في البنك المركزي الصيني مقترحات زيادة نسبة اليورو والين في الاحتياطي الأجنبي. ورغم ذلك بقيت الهيمنة للدولار، لعوامل سبق ذكرها. وتركيب هذا الاحتياطي الصيني غير معلن، ويخمن كثير من المحللين أن يمثل الدولار نحو 60 في المائة منه، واليورو نحو 30 في المائة.
باختصار، ليس هناك من عملة في الأفق القريب تحل محل الدولار. فخلاف قوة وحجم الاقتصاد، هناك متطلبات في هذه العملة. استقرار العملة متطلب رئيس، وهذا الاستقرار يتطلب بنكا مركزيا يتمتع بمصداقية تتفوق على مصداقية الآخرين، وحكومة تتمتع بالملاءة، أي الوفاء بالتزاماتها المالية على المدى البعيد.
وخلاف هذه النقطة، أمام الصين أعوام طويلة لتبني اقتصادا وقوة وسمعة تمكنها من موازاة هيمنة الاقتصاد والقوة الأمريكية. أما منطقة اليورو فتعاني اختلالات كبيرة من جراء العجز والمديونية، واختلاف المصالح في السياسات الخارجية. وتبعا، فإن السلوك الأمريكي هو أهم عامل في مدى استمرار هيمنة الدولار في المستقبل المنظور.
وللحديث بقية.

إنشرها