Author

أمن الطاقة الأوروبي بين مطرقة الشعارات وسندان الطلب

|

أستاذ الطاقة الكهربائية ـ جامعة الملك سعود

[email protected]

اندلعت الأزمة الروسية - الأوكرانية منذ شباط (فبراير) 2022 ووجد العالم نفسه أمام تحديات أمنية ومسؤوليات اقتصادية عصيبة تتمثل في الطاقة والغذاء وغيرهما، وتفاقمت حدة الأزمة مع فرض العقوبات الاقتصادية والمالية والتجارية على روسيا مع عدم وضوح رؤية انتهاء الحرب الدائرة، الأمر الذي وضع أغلب الدول في اختبار حقيقي، وأدى تأثير العقوبات والاضطرابات السياسية إلى تخفيف التزامات المناخ من أغلب الدول الأوروبية. ففي 2021، تم ضخ 155 مليار متر مكعب من الغاز الروسي عبر الأنابيب إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما يمثل نحو 40 في المائة من إجمالي إمدادات الغاز في الاتحاد، لكن سيقود انقطاع هذا الغاز إلى أزمة طاقة في دول الاتحاد الأوروبي هذا الشتاء، إضافة إلى أن مستويات الأنهار والخزانات منخفضة أيضا بسبب انتشار الجفاف الذي يؤثر في إنتاج الطاقة الكهرومائية والنووية، وهذا يضع مزيدا من الضغوط على أمن الطاقة الأوروبي. لقد بدأت تعهدات بعض الدول الأوروبية في التغير المناخي تنهار بالفعل، ما حدا بها إلى التخلي عن الالتزامات المتعلقة بالمناخ، فقد أعيد تشغيل محطات توليد الطاقة بالفحم وقطع أشجار الغابات وشيدت خطوط أنابيب جديدة لمنع انقطاع التيار الكهربائي، وتم التراجع عن بعض من السياسات من أجل التعامل مع الأزمة، ما قد يعرض التزام الاتحاد الأوروبي بتحقيق حياد الكربون بحلول 2050 إلى الخطر. وأخذت وسائل الإعلام في تداول موضوع الأمن وإدارة المخاطر للوقوف مجددا، لكن البحث عن بديل فوري سيكون مكلفا ومرهقا لاقتصادات هذه الدول، لأن الحدث مفاجئ كما يقول أهل السياسة الأوروبيون أو لسوء إعداد وإدارة أمن الطاقة. إن عدم إدارة أمن الطاقة والمخاطر جيدا سيؤدي إلى رفع أسعار الطاقة على المستهلك النهائي، ولقد اضطرت دول الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ قرارات مكلفة إبان وقوع الأزمة، ولو درست إدارة المخاطر وأعدت جيدا فسيكون عامل الوقت وقائمة الخيارات متوافرا للتفكير والخروج من أي أزمة.
ومع قيام روسيا بتخفيض إمدادات الغاز الطبيعي وانفجار خط أنابيب نورد ستريم، فكرت دول الاتحاد الأوروبي في حرق مزيد من الفحم لتأمين إمدادات الطاقة. فقد أوقف عملاق الطاقة الروسي، شركة غازبروم، الإمدادات عن عديد من دول الاتحاد الأوروبي لرفضها دفع ثمن الغاز بالروبل، بما في ذلك بولندا ورومانيا وبلغاريا وفنلندا وهولندا، وواجهت ألمانيا والتشيك وإيطاليا والنمسا وسلوفاكيا أيضا انخفاضا حادا في حجم الغاز. وأعيد توجيه دول الاتحاد الأوروبي نحو واردات الغاز الطبيعي المسال، لكن المخاوف بشأن تأثير هذه التدابير في سياسات المناخ والالتزامات الدولية لا تزال قائمة. وأعلنت ألمانيا والنمسا تدابير طارئة للتعامل مع انخفاض تدفقات الغاز الروسي، بما في ذلك الاستخدام المحتمل لمحطات الطاقة التي تعمل بالفحم، وفي حقيقة الأمر، فقد فتحت الأزمة نافذة عريضة لإطالة عمر الفحم في القارة العجوز. أما المملكة المتحدة، فقد وافقت على إطالة عمر محطات الطاقة التي تعمل بالفحم خلال فصل الشتاء مع رفع مستهدفات الطاقة المتجددة البحرية. وتلتزم استراتيجية أمن الطاقة البريطانية أيضا بزيادة مشاريع الطاقة النظيفة، مع استثمارات في مشاريع الرياح البحرية والهيدروجين والطاقة الشمسية، واقترح بناء مفاعلات نووية جديدة واستخراج مزيد من النفط والغاز في بحر الشمال وإجراء مراجعة فورية لأنظمة تكسير البترول Oil Cracking الذي تم حظره في 2019. لكن لم تقدم مقترحات حكومة المملكة المتحدة أي توجهات تنظيمية إلى خفض الطلب على الطاقة، على سبيل المثال رفع كفاءة الطاقة وعزل المباني.
ومنذ تأسيس الاتحاد الأوروبي، ترغب المفوضية الأوروبية في تسريع انتقال الطاقة النظيفة من خلال تقليل متطلبات الطاقة الأحفورية واستخدام مصادر طاقة جديدة التي أصبحت شعارا يستخدم في مؤتمرات ومنتديات حول العالم، والآن أصبحت تحديا حقيقيا لتحل محل الغاز الروسي. ويتضمن ذلك إنشاء مزيد من مشاريع الطاقة الشمسية والمضخات الحرارية إضافة إلى تسريع مشاريع طاقة الرياح وتحسين البنية التحتية للشبكات، وتشمل المقترحات توفير الطاقة من خلال تحسين كفاءة الطاقة في القطاعات السكنية والتجارية والصناعية. ونتساءل بدورنا لماذا لم يقم الاتحاد الأوروبي بذلك من قبل؟ وهل تم إعداد أمن الطاقة وإدارة المخاطر جيدا؟ بل هل سنرى شعارات الحفاظ على البيئة مجددا؟ أم أنه "لا يصلح العطار ما أفسد الدهر"، أم أن الحدث كان مفاجئا كما يذاع للعامة وإسكات الجمهور الأوروبي الغاضب بعد أن ارتفعت أسعار الطاقة عاليا حتى أغلقت بعض المحال التجارية وعاشت على الشموع إيذانا بعصر حجري جديد.
وبالنظر إلى المشهد الحالي، نلاحظ أن الجدل حول مستقبل الطاقة الأوروبي قد بدأ يشتد للغاية ويتخذ منحى في غاية الضبابية والغموض، ويحث صانعو السياسة على عدم التغاضي عن المخاوف البيئية عند اتخاذ قرارات بشأن مستقبل الطاقة في أوروبا، لأن الفحم يعد أحد أكبر المساهمين في التغير المناخي، ومن المرجح أن تؤدي إطالة عمر محطات الطاقة التي تعمل بالفحم في أوروبا إلى زيادة البصمة الكربونية على المدى القصير وقد يكون أطول من ذلك. ويظهر من نتائج تأمين كميات جديدة من الغاز إلى أوروبا أن من الصعب على دولها تحقيق أهدافها نحو تقليص كميات الانبعاثات، وأن ما تم القيام به هو البحث حقيقة في سوق الغاز العالمية. وأصبح الغاز الخيار المناسب، سواء الجاف أو المسال، لكن إذا لم يتم التمكن من الحصول عليه لأسباب جيوسياسية أو اقتصادية، فسيكون الفحم الخيار المجدي اقتصاديا وهذا واقع مشاهد في دول الاتحاد الأوروبي الآن. ألم يرفع الاتحاد الأوروبي شعارات البيئة والتغير المناخي مسبقا ويدعو العالم إلى التوقف عن استخدام الفحم؟ أم أن عدو الأمس هو صديق اليوم؟ والطلب على الكهرباء هو سيد الموقف، وما المسرح الأمريكي عنهم ببعيد.

إنشرها