Author

الأموال الهاربة

|

يبدو واضحا أن التحرك البريطاني الأخير لحصر ما أمكن من الأموال العائدة إلى مقيمين في بريطانيا في الملاذات الآمنة، يأتي بدعم جديد من تأثيرات الأزمة الاقتصادية المحلية، المرتبطة في جزء منها بأزمة الاقتصاد العالمي الراهنة. تقدر هيئة الضرائب في المملكة المتحدة حجم هذه الأموال بـ850 مليار جنيه استرليني منها 570 مليار جنيه استرليني في ملاذات آمنة. ويعود هذا التقدير إلى عام 2019، أي أن هذه الأموال يمكن أن تكون أكبر مما تم تقديره. والسلطات البريطانية التي تواجه أزمة اقتصادية غير مسبوقة منذ أكثر من أربعة عقود، تسعى إلى تمويل ميزانيتها العامة من كل المصادر المتاحة، إلى جانب قرارها الأخير بخفض جزء من الإنفاق العام، لسد العجز في هذه الميزانية الذي بلغ نحو 70 مليار جنيه استرليني.
والمشكلة الناجمة عن التهرب الضريبي ليست جديدة لا في بريطانيا ولا على المستوى العالمي. ومن المفارقات أن نسبة كبيرة من الملاذات الضريبية الآمنة تقبع في دول أو "أشباه دول" تابعة رسميا للمملكة المتحدة كمستعمرات سابقة أنشأت شكلا من العلاقة مع بريطانيا في أعقاب الاستقلال. وفي كل الأحوال، تعرف الجهات البريطانية المختصة طبيعة الحراك المالي في الملاذات الآمنة، التي تعرضت لأقوى حملة حقيقية بالفعل في أواخر العقد الأول من القرن الحالي في عهد رئيس الوزراء الأسبق جوردون براون. لماذا؟ لأن العالم، كان يواجه أزمة اقتصادية شاملة لم يسبق لها مثيل في قوتها منذ قرن من الزمن. وتحركت وقتها "مجموعة العشرين" بقوة من أجل إتمام تضييق الخناق على هذه الملاذات التي لا تقتصر على أموال هاربة من الضرائب فقط، بل تشمل أخرى مرتبطة بالجريمة المنظمة وغسل الأموال وما شابه ذلك.
تعتقد الجهات الرسمية حول العالم، أن الملاذات الضريبية تمثل "ثقبا أسود" في الاقتصاد العالمي، خصوصا إذا ما عرفنا أن حجم إجمالي هذه الأموال ربما يصل إلى 32 تريليون دولار، في حين أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي بلغ العام الماضي 94 تريليون دولار، أي أنها تشكل ثلث هذا الناتج تقريبا. لكن السؤال الأهم الذي يمكن أن يطرح هنا هو، هل يكفي التحرك الدولي الراهن وحتى السابق لمحاصرة هذه الأموال؟ لقد أثبتت التجارب السابقة أنه لا يكفي حقا، مع نمو كبير للأموال الهاربة من الضرائب حول العالم، خصوصا تلك الخارجة من البلدان المتقدمة. دون أن ننسى، أن هناك ثغرات يعترف بها المسؤولون في بريطانيا وغيرها، في الهيكلية الضريبية حتى في البلدان الأصلية لهذه الأموال. أي أن عملية ملاحقة المتهربين من الضرائب على نطاق واسع، لا تزال دون المستوى المأمول.
بعض المراقبين بينهم البروفيسور وليم أستون أستاذ النظم المصرفية السابق في جامعة أوكسفورد البريطانية، يعتقدون أنه لا توجد رغبة حقيقية في النظام العالمي للقضاء على الملاذات الضريبية، رابطا ذلك بمصالح عديد من الشركات العالمية والأثرياء الدوليين في الإبقاء على هذه الملاذات. لكن الحكومات تعتقد أنه آن الأوان لشن حملة محكمة ضد هذه الملاذات، في ظل الضغوط الاقتصادية المحلية الكبيرة، التي أدت في بلد كبريطانيا إلى طرد رئيسة وزراء "ليز تراس" من منصبها بعد 44 يوما فقط من وصولها إليه. أي أن الضغوط المالية تحفز الجهات التشريعية وإنفاذ القانون على مزيد من التحرك في هذا الميدان الذي يتسع رغم كل المحاولات السابقة لتضييقه. ولا شك في أن كل تقدم في هذا المجال، يمثل قوة دفع أخرى للاقتصاد العالمي، الذي يحتاج الآن إلى كل رافد مالي لتجاوز أزمته الراهنة.

إنشرها