Author

استراتيجية حماية المناخ معقدة

|
كاتب اقتصادي [email protected]

"كوكبنا لا يزال في قسم الطوارئ، ونحتاج إلى خفض جذري للانبعاثات"
أنطونيو جوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة
من الصعب العثور على مراقب واحد كان يتوقع نجاحا باهرا لمؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي "كوب 27" الذي عقد في شرم الشيخ المصرية. فالخلافات صارت منذ عدة أعوام محصورة في الميدان الإجرائي، بعد أن اتفق العالم على حقيقة وجود تغير مناخي يهدد مستقبل الكرة الأرضية والبشرية. هذه النقطة تم تجاوزها بالفعل، باستثناء ظهور حكومة هنا أو أخرى هناك، تعتقد غير ذلك، بما في ذلك إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، التي لم تعترف بوجود هذه المشكلة المناخية أصلا. لكن في النهاية الاتفاق العالمي على حقيقة التغير المناخي، أسهم بلا شك في تذليل عقبات كبيرة في الأعوام الماضية، أمام المسيرة الدولية نحو تخفيف الآثار السلبية في المناخ، عبر سلسلة من البرامج والتعهدات والمبادرات والسياسات وغيرها.
يعتقد أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، أن "كوب 27" فشل في وضع خطة لخفض الانبعاثات. ولا شك في أن الرجل لا يمكنه إلا أن يقول ذلك، من باب الضغوط الإعلامية أو حتى الدبلوماسية والسياسية. لكن لا بد من الاعتراف بأن العالم حقق الأعوام الماضية عدة قفزات نوعية على صعيد حماية المناخ والبيئة عموما، ويعمل "بصرف النظر عن بعض الثغرات" من أجل تحقيق الهدف الأساسي وهو خفض حرارة الكرة الأرضية 1.5 درجة مئوية فقط. بالطبع تظهر دائما المشكلة "التاريخية" المعروفة في مثل هذه الميادين، وهي تتعلق بمدى التزام الدول بتعهداتها؟ والحق أن الثغرات تكمن في هذه النقطة خصوصا، في حين أن دولا مؤثرة "مثل السعودية"، لم تلتزم بتعهداتها المناخية فحسب، بل طرحت مبادرات غير مسبوقة لتكريس حماية المناخ عبر "السعودية الخضراء" و"الشرق الأوسط الأخضر"، لا بد من الاعتراف بأن التفاهمات العالمية حيال المناخ، تتطلب مساحات زمنية ليست قصيرة من أجل أن تكون جزءا راسخا قويا في العمل لتحقيق الأهداف المناخية المعروفة، التي باتت تدخل حتى في مناهج التعليم في عدة دول.
ولا بد من الاعتراف أيضا بظهور خيبات أمل بعد أي تجمع عالمي معني بهذه المشكلة الخطيرة. فالإجماع على كل بند من بنود حماية المناخ، مطلوب بالتأكيد، لكنه يحتاج إلى أرضية أكثر نضجا، وأكبر كفاءة، بينما لم تسفر الانتقادات التي توجه عادة إلى هذا الطرف أو ذاك عن أي نتائج إيجابية. فالأوروبيون وجهوا بعد "كوب 27" اتهامات لمن وصفوهم بـ"كبار الملوثين"، لأنهم لا يقومون بجهود إضافية لتحقيق الهدف العالمي. ومثل هذه الاتهامات العلنية لا تخدم المسار العام بأي شكل من الأشكال فأي طرف يسعى إلى الحصول على أفضل وضعية له ضمن استراتيجية حماية المناخ، وهذا أمر طبيعي. فلا توجد جهة تتمتع بالحد الأدنى من الحكمة تعمل ضد نفسها في أي ساحة. والنقطة الأهم هنا، لا بد أن تكون منحصرة في تكريس التفاهم العالمي بوجود مشكلة أو "مصيبة" مناخية، ولكل طرف دور في مواجهتها.
والوصول إلى الاتفاقات السريعة لا تضمن في النهاية تحقيق الأهداف؟ فكثير من الاتفاقات العابرة انتهت حتى قبل أن تبدأ. ومن هنا، يمكننا النظر إلى الصندوق الذي اتفقت على إنشائه الدول المشاركة في "كوب 27" لمساعدة الدول الفقيرة والمتضررة من الكوارث المناخية. إنه خطوة مهمة جدا إلى الأمام، لكن لا بد من النظر إليه من زاوية التنفيذ، مع ضرورة ألا توجه الانتقادات والاتهامات من هذا الطرف إلى ذاك الطرف، بشأن تفاصيل عمل هذا الصندوق.
لا أحد يعرف في الوقت الراهن كيف سيتم إنشاء صندوق المساعدات المناخية هذا، ولا حتى جهات التمويل أو الأطراف التي ستستفيد منه. كل هذا لا بد أن يظهر قبل مؤتمر المناخ المقبل "كوب 28" في أبوظبي، على شكل تقرير للجنة ستكلف بإعداده. وهذه النقطة خصوصا، تتطلب تعاونا وتفاهما، إضافة إلى سياسات متوازنة بين الأطراف المعنية بها. ستكون هناك أمور خلافية بلا شك، فهذا الصندوق مخصص لمساعدة الدول النامية على تحمل التكاليف الفورية للتداعيات الناجمة عن تغير المناخ، مثل العواصف والفيضانات. وتكفي الإشارة إلى أن طرحه في شرم الشيخ جاء بعد مفاوضات واتصالات ومباحثات وصلت الليل بالنهار، بل تم تمديد "كوب 27" يوما واحدا من أجل ذاك.
لا شك في أنها خطوة إلى الأمام، لكنها تحتاج إلى مزيد من السياسات الحكيمة لتثبيتها وتحويلها إلى استراتيجية عادلة ونافعة. وتكفي الإشارة إلى أن 1.3 مليار مواطن إفريقي "مثلا"، ومئات الملايين من المواطنين في آسيا سيستفيدون من صندوق كهذا. وفي كل الأحوال، لا بد من النظر إلى الجهود المبذولة لحماية مناخ الكرة والأرضية ومستقبل البشرية، من الناحية الإيجابية. وما يجري الآن ليس إلا تأسيس استراتيجية ستدوم عقودا طويلة، وليس غريبا أن نشهد في مرحلة إعدادها خلافات أو تباينات من النواحي الإجرائية، في ظل وجود إجماع على حقيقة وجود تغير مناخي يأتي بمخاطر على البشرية جمعاء.

إنشرها