الاقتصاد والشيخوخة .. هل بالإمكان إعادة القدرة الحيوية البشرية إلى ما كانت عليه؟
في كل يوم يتوفى نحو 150 ألف إنسان، ثلثا هذه الوفيات ناتج عن أمراض الشيخوخة، بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي الدولي. فهل الشيخوخة عرض طبيعي أو مرضي؟ بين الولادة والحياة يعيش الإنسان تغيرات وتطورات حيوية تتمتع بثلاث مراحل أساسية: مرحلة النمو، مرحلة النشاط، وبعد ذلك مرحلة الشيخوخة والتدهور الحيوي. حتى أمد قريب كانت تصنف هذه الظاهرة على أنها منحى حياتي طبيعي، غير أن سرعة بلوغ مرحلة الشيخوخة تعد مؤشرا غير صحي لا يمكن تجاهله، ولا سيما أن التباين الملحوظ في سرعة التقدم في العمر وبلوغ الشيخوخة بين الكائنات الحية والمجتمعات البشرية متفاوت، وبين الجنس البشري المعاصر ذاته وأسلافه. فما الشيخوخة؟
الشيخوخة هي نواتج العمليات الحيوية التي تتراكم في الجسم مؤدية إلى عطب الخلايا أو مرضها وقلة حيويتها مع مرور الوقت، ما يتسبب في فقدان القدرات الجسدية والذهنية بشكل تدريجي. ومع تقدم خط الزمن وبوجود عارض الشيخوخة، فإن فرصة حدوث الوفاة تزداد وبشكل مثير. ففرصة الوفاة لإنسان صحيح في الـ30 من عمره هي واحد من الألف، بينما تزداد النسبة إلى واحد من 20 لمن هم في الثمانينيات من العمر. فماذا يحدث على المستوى البيولوجي حتى تتضاعف هذه النسبة بهذا الكم المذهل؟ إن التدهور الحيوي الذي يحدث للجسم يصاحبه ما يسمى أمراض الشيخوخة، مثل: أمراض القلب، السرطان، الجلطات، ضعف الحواس والجسم العام، ضعف الجهاز المناعي، وارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض المعدية... إلخ. حتى إن الفيروسات الشائعة، كالإنفلونزا وكورونا، تضاعفت نسبة الوفاة لدى كبار السن في حال الإصابة 100 مرة عن فئة الأصحاء الشباب. تتضمن الشيخوخة عمليات حيوية معقدة ينتج عنها ضرر أو تطفر في الجينات، كقصر التليمورات التي هي مكون للكروموسوم الذي ينشطر مع تكاثر الخلايا، وهو مؤشر لتكرار انقسام الخلايا وعجزها عن الانشطار بشكل صحي لاحقا في حياتها. إضافة إلى أعطاب وتدهور البروتينات، أحد المكونات الأساسية في الخلايا، التغير في الأنماط الوراثية الظاهرية، اعتلال وظائف العضيات الخلوية، كالمايتوكندريا التي تعرف بأنها بيت الطاقة داخل الخلايا، تغير في الإشارات الحيوية الطبيعية التي تبني عليها الخلايا تواصلها واستجابتها الحيوية، تغير في المايكروبات الحيوية المستوطنة في الجسم التي تقوم بعدد من الوظائف الحيوية المهمة، وشيخوخة الجهاز المناعي وضعفه. ومع التقدم في العمر تزيد عدد الخلايا التي فقدت حيويتها ولا تعود تنقسم، ونظرا إلى ضعف النظام الحيوي، فإنه لا يمكن إزالتها من الجسم وبذلك تزيد سرعة شيخوخة الجسم.
حديثا، أظهرت التجارب والأبحاث المخبرية نتائج واعدة وممكنة لتبطئ عملية الشيخوخة. فعلى سبيل المثال، في حالة الشيخوخة ينشط إنزيم التيلوميريز الذي يزيد من فرصة الإصابة بالسرطان. وبينت الدراسات والتجارب أن حقن الجين المسؤول عنه في بويضة الفأر يتسبب في ظهور السرطان في المراحل اللاحقة من تطوره. لكن وبتحقيق الموازنة عبر تزويد الفأر بالجين المسؤول عن إنزيم التيلوميريز وعدد من مضادات السرطان البروتينية، فإن النتيجة تسببت في زيادة عمر الفئران بما يقارب 40 في المائة، وبتجربة مماثلة تم تزويد الفئران فيها بإنزيم التيلوميريز القابل للتحطم مباشرة، ما نتجت عنه زيادة في أعمار الفئران إلى 20 في المائة من دون أي بوادر للإصابة بالسرطان. ليس هذا فحسب، بل إن بعض العلاجات المتداولة أظهر تأثيرا فاعلا لاستهداف الشيخوخة.
فمثلا الأفراد المصابون بداء السكري الذين يستخدمون علاج الميتفورمين أظهروا زيادة في متوسط الحياة، مقارنة بمن يستخدم علاجا آخر أو من لا يعاني داء السكري بالأساس. وفي دراسة أخرى، تمت تجربة الميتفورمين مع الراباميسين "المثبط المناعي ومضاد السرطانات"، وأظهرت النتائج زيادة في متوسط الحياة. لذا من الممكن جدا أن يتم استهداف عدد من علامات الشيخوخة ومسبباتها في آن واحد بهدف استدامة الصحة.
وفي الزمن الحالي، فإن متوسط عمر الإنسان على سطح الأرض يقدر بـ72 عاما، وتتفاوت هذه النسبة بين مجتمعات العالم. ففي اليابان يبلغ متوسط عمر الإنسان 85 عاما، وهذه النسبة الإحصائية ليست مرتبطة بغناء أو فقر الشعوب. إلا أن مكافحة أمراض الشيخوخة لها عوائد اقتصادية هائلة بحسب ما خلصت إليه الأبحاث العلمية. ففي الولايات المتحدة فقط، تقدر تكاليف الأمراض المزمنة، كأمراض القلب والزهايمر والسرطانات شاملة للرعاية الصحية بتريليون دولار سنويا، بينما تقدر المنفعة المرجوة والعوائد الاقتصادية من استدامة الصحة وتأخير أمراض الشيخوخة لعام واحد فقط بـ37 تريليون دولار، وقد قيل قديما إن الصحة لا تقدر بثمن.
أخيرا، إن الشواهد التاريخية تشير إلى أن الجنس البشري عاش فترة زمنية طويلة جدا تقدر بما يقارب الألف عام، وفي هذه دلالة على استدامة الصحة، فهل من الممكن أن تقودنا الأبحاث العلمية إلى إعادة القدرة الحيوية البشرية إلى ما كانت عليه سابقا؟