Author

أوروبا من التباطؤ إلى الركود المؤلم

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"اقتصاد الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى قواعد جديدة للميزانية"
إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا

حال الاقتصاد الأوروبي في الوقت الراهن، ربما أفضل من وضعية الاقتصاد البريطاني، لكن ليس كثيرا. فاقتصاد الكتلة التي تضم 27 دولة، منها 18 بلدا ضمن منطقة اليورو، بات كهذه من الاقتصادات الأخرى على الساحة الغربية يقترب من الركود، مع انكماش واضح لعدد من الاقتصادات الأوروبية الرئيسة، مثل ألمانيا التي يرجح أن يتراجع ناتجها المحلي الإجمالي في العام المقبل 0.6 في المائة، مع توقعات وكالة الإحصاءات في فرنسا، بتراجع النمو الاقتصادي الفرنسي في الربع الأخير من هذا العام إلى الصفر، مع مؤشرات متعددة على أن الانكماش سيضرب هذا الاقتصاد في العام المقبل. والواقع أنه يمكن وصف 2023 بعام الانكماش الذي يؤدي حتما إلى الركود. فـ"العوائد" السلبية للعام الجاري، تؤسس بقوة لهذا الركود الذي بات بمنزلة الفزاعة لكل الحكومات الأوروبية، بصرف النظر عن مستوى أوضاع اقتصادات دولها.
المفوضية الأوروبية كانت واقعية عندما حذرت من الركود الآتي إلى الاتحاد الأوروبي ككل هذا الشتاء، للأسباب التي يعرفها الجميع، وهي ارتفاع أسعار الطاقة في هذا الفصل خصوصا، لأن الطلب يزداد عليها، إلى جانب التضخم القياسي. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن لا مساحة للنمو الاقتصادي بأي شكل من الأشكال. خصوصا إذا ما أخذنا في الحسبان مواصلة البنك المركزي الأوروبي على تشديد سياسته المالية، حالها كحال أغلبية البنوك المركزية حول العالم. فقد أوصل هذا البنك الفائدة إلى 200 نقطة أساس في اجتماعاته الدورية الثلاثة الأخيرة، في حين تؤكد رئيسته كريستين لاجارد مواصلة رفع معدلات الفائدة لمكافحة التضخم، بصرف النظر عن المخاطر التي ينشرها الركود ضمن نطاق منطقة اليورو. ولا شك في أن "آلية" رفع الفائدة لا تزال الوحيدة في أيدي المشرعين الماليين ليس في الاتحاد الأوروبي فحسب، بل على مستوى العالم. فكل الأدوات الأخرى لكبح جماح التضخم لا قيمة لها في هذا الوقت بالذات.
التوجهات الراهنة على صعيد الفائدة، أن "المركزي الأوروبي" سيمضي في رفعها بحيث ستصل في العام المقبل إلى 3 في المائة. وهذا أعلى معدل لها بعد عقدين على الأقل من التيسير النقدي الذي ولد تعبير المال الرخيص. ما يعني أن الركود الذي سينتشر في أرجاء الكتلة الأوروبية سيبقى لفترة لن تكون قصيرة، حتى لو دامت عاما واحدا فقط. لماذا؟ لأن العودة إلى النمو لا تعني تحقيق المكاسب السريعة، ولا سيما أن "المخلفات" السلبية في العامين الماضيين، استحوذت على نسبة من المقدرات الاقتصادية التي تتطلب مزيدا من الوقت لإعادة التوازن إليها. فبرامج الدعم والإنقاذ خلال جائحة كورونا، والمساعدات المالية خلال الموجة التضخمية الراهنة، رفعت من مستوى الديون الحكومية في كل أرجاء الاتحاد الأوروبي، حتى إن بعض الدول اقتربت من مستوى العجز الذي أصابها في 2010، عندما تدخلت ألمانيا وقتها لإنقاذها.
لا شك أن هناك تفاوتا في التباطؤ بين اقتصاد وآخر ضمن المجموعة الأوروبية، لكن تبقى الآثار السلبية واحدة على جميع الأطراف، بحكم ترابطها الاقتصادي الشامل. وبين التباطؤ والركود خط رفيع يكاد لا يرى، وهذا ما يبرر "مثلا" إصرار إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على أن اقتصاد بلادها متباطئ وليس في حالة انكماش أو ركود. فللتوصيف الأخير آثاره النفسية مثلما هي آثاره الاقتصادي، إلا أنه في النهاية لا يمكن الهروب إلى الأمام عبر نفي حالة واضحة أمام الجميع. وإذا ما كان هنا نقطة يمكن اللعب حولها، فهي ترتبط مباشرة في الزمن الذي سيقضيه الركود في الميدان الأوروبي. فكلما تمكن الأوروبيون من اختصار هذه المساحة الزمنية، اقتربوا من العودة إلى ساحة النمو بصرف النظر عن مستوياته في المرحلة الأولى.
سيكون الركود واسع النطاق عبر الكتلة الأوروبية التي تواجه امتحانا اقتصاديا لا يقل صعوبة عن ذاك الذي دخلته في 2010 عندما اندلعت أزمة الديون الحكومية في عدد من دولها. وتوصيف "الركود الواسع" أتى في الواقع من باولو جينتيلوني مفوض الاقتصاد في الاتحاد الأوروبي، ما يعزز الحقيقة المرة أكثر. ومع الضغوط التضخمية الراهنة، وعدم قدرة الأوروبيين تماما على الوصول لاستراتيجية أكثر استدامة على صعيد إمدادات الطاقة مع بدء ارتفاع الطلب على الوقود بأنواعه في موسم البرد، سيكون انكماش فصل الشتاء المقدمة للركود في العام المقبل. فالمسؤول الأوروبي نفسه يقول "إن آفاق العام المقبل ضعفت بشكل كبير". وهذا يعني أن الركود المشار إليه قد يبقى مدة أطول، وربما استمر حتى 2024.
الأشهر المقبلة ستكون ثقيلة جدا على كل الحكومات الأوروبية، التي "اكتشفت" أنها لا تملك بالفعل استراتيجية توفر لها الأمان في مجال إمدادات الطاقة، التي أضافت مزيدا من الضغوط على الموازنات العامة، بينما يتصاعد الحديث يوما بعد يوم، عن الارتفاعات المقلقة جدا للديون السيادية في كل الدول الأوروبية دون استثناء، التي فاقت في حجمها النواتج المحلية الإجمالية لكثير من الدول.
إنشرها