Author

أنظمة تعزز الصراحة والمحبة

|

تعمل الشركات اليوم على صفيح ساخن، ما بين تحديات اقتصادية وتنافسية متنوعة وبين صعوبات الحفاظ على المواهب واستدامة أعمالها. لم تعد الحذاقة الإدارية بشكلها المبسط والتقليدي كافية للسيطرة على الكم المهول من المتغيرات. ومن هذا انتقال دوائر الاهتمام نحو الموظف الإنسان، رغباته واهتماماته ومشاعره وأحاسيسه، كلها أولويات لدى أي إدارة صحية تعمل بجدية للحفاظ على موظفيها وتنمية مردودهم على الكيان.
قد يظن أحدهم أن غرف الترفيه والهدايا المتسلسلة وتهنئة الموظف على وسائل التواصل الاجتماعي كافية لتنمية بذرة الحب مع الموظف. وكافية كذلك لإرسال رسالة لموظف المستقبل الذي لم يأت بعد بأن هذا المكان ببساطة "رائع"، والعمل فيه أخاذ، والأجواء دائما إيجابية والبيئة "تفتح النفس" ويظن مثل هؤلاء أن هناك تعارضا مع التنظيم والترتيب الذي يرون المبالغة به مشكلة، يجب أن يتحرر العمل حسب وجهة نظرهم من الأنظمة العتيقة والأدوات التقليدية والإجراءات الغابرة. هناك دائما تقليل لأهمية الأنظمة ـ تقنية كانت أو إجرائية ـ عند التعامل مع الموظف. يصنع البعض عزلة بين قرار البيع والشراء والاستثمار، وبين الأنظمة والإجراءات، وبين الموظف كإنسان يقضي جزءا كبيرا من حياته داخل أروقة هذا الكيان. يحاول مثل هذا المسؤول أن يحسن التعامل مع كل أمر على حدة، وهذا سوء فهم كبير.
تعمل المنظمة أيا كانت وفق قدرتها على الجمع بين الإنسان والإجراء، وتستخدم التقنية والآداب وبروتوكولات التواصل لرفع كفاءة هذا العمل. إن نجحت في ذلك تجاوزت تحدياتها وصنعت القيمة وتمكنت من تحويل الشيء إلى أشياء ونمت أصولها وأثمرت. وإن لم تتمكن من ذلك عاشت تحدياتها في معاناة. التعامل مع الموظف هو الجزء الأساس في هذه المنظومة، وفهم كيفية التعامل مع الموظف خلال العمل لا ينحصر في برامج الولاء أو في كثرة المنافع أو الأشياء الظاهرة والمحسوسة فقط. قدرة المنظمة على الإنجاز مرتهنة بفهم تأثير الموظف وتأثراته بما يحدث من حوله، من خلال الحوافز والعقوبات، من خلال تفاعله كشخص مع الأنظمة، من خلال إيمانه بالإجراءات وأهميتها، من خلال تعايشه اليومي أثناء العمل.
كل تفاعلات الموظف مع مكان وأحداث عمله مهمة، ويمكن فهمها بدرجات مختلفة. هناك من يعتقد بأنه يفهمها دون قياس، بالحدس والخبرة، وهذا بعيد عن الواقع ولا يعرف أنه بعيد عن الواقع، هو لا يفهم أنه لا يفهم. وهناك من يعتقد بأن الموظف مجرد أداة أو آلة، وهذا أبعد من سابقه وأسوأ. قائمة تفاعلات الموظف مع عمله طويلة جدا، وهي بحر مليء بالكنوز الثمينة والمهمة. تبدأ هذه التفاعلات من لحظة قدومه إلى العمل، بل من لحظة إيقاف سيارته في مواقف السيارات، ودخوله مكتبه، وشربه قهوته، وكيفية أداء ورصد أعماله، وتفاعله مع الأنظمة الإلكترونية، وقدرته على الشعور بتحقيق الذات بشكل يومي في كل إجراء يقوم به، وأثناء تفاعله مع الإنجاز، وتفاعله مع الضغط، وتفاعله مع الأزمات كبيرة أو صغيرة، وتفاعله مع زملائه، ومع الإدارات الأخرى، ومع العملاء والمنظمين. حياة الموظف شبكة معقدة من التواصل والتفاعل، تحكمها الأنظمة والإجراءات والبروتوكولات. منها ما هو تقني ومنها ما هو طبيعي، منها ما هو مصمم ومدروس ومنها ما هو عشوائي وعفوي. كل احتكاك وكل تجربة وكل سلوك قابل للفهم وقابل للتحسين.
قد يواجه الموظف نظاما تقنيا واحدا بسيطا أثناء يومياته ويكون كافيا ليولد له كما هائلا من أحاسيس الملل، وربما انتقل إلى مرحلة الضغط والاحتقان. هناك من الأنظمة ما يحفز على التعلم ومشاركة التجارب، وهناك ما هو على النقيض من ذلك، إذ يؤجج المواجهات والاتهامات. بعض الأنظمة توثق الأخطاء التشغيلية بطريقة محفزة وشفافة، تصنع تفاعلا صريحا وشجاعا ومقبولا. وبعضها تصمم ـ أو تنفذ ـ بطريقة تحفز الحرص الزائد والتخوف. قياس هذه التفاعلات هو ما ينقل المنظمة من وضع إلى آخر. لماذا؟ لأن المنطق يتفوق في نهاية الأمر، لكن المنطق لا يمكن أن يبنى على نقص أو سوء فهم للمعلومة. إذا ترك الحبل على الغارب، تنشأ الأنظمة الفوضوية ويستشري سوء الفهم، وبذلك يتعزز التواصل الخفي وتقل مؤشرات الشفافية والانتماء. وإذا نمت محاولات الفهم والقياس، تحسنت نوعية الإصلاحات، وفتح المجال لمزيد من التفاعلات الإيجابية التي تعزز الصراحة والمحبة في مكان العمل، البيت الثاني للموظف.

إنشرها