Author

ديون سيادية تغذي أزمة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"ينبغي إصلاح نصوصنا. حتى لو أدى الأمر إلى مراجعة المعاهدات التي تجمعنا"
إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا
العواصف الاقتصادية تضرب أوروبا حاليا، في سياق الأعاصير الاقتصادية العالمية، إن جاز التعبير. صحيح أن عاصفة تختلف عن زخم أخرى هنا وهناك، بحكم إمكانات هذه الدولة أو تلك، لكن الصحيح أيضا، أنها بدأت تثير أسئلة لا تنتهي حول وضعية دول، لم يحدث أن تعرضت لها في السابق. ما يعني أن العواصف المشار إليها، نالت بقوة حتى من الجهات التي كانت تعتقد أنها منيعة، أو على الأقل أنها قادرة على احتوائها بسرعة، أو أنها عابرة، سرعان ما تتحول إلى تاريخ غير محوري. هذا ينطبق على الحالة الأوروبية في الوقت الراهن. فالاتحاد الذي يضم 27 دولة، يتعرض كغيره من التكتلات والدول، لأزمات اقتصادية متفاقمة، تتصدرها في هذا الوقت بالذات أزمة الديون السيادية التي بلغت حدا لم يعد مقبولا عند المشرعين، الذين يتسمون بالواقعية بعيدا عن العواطف، أو الشعارات "الرنانة".
والديون السيادية الأوروبية ليست جديدة، لكنها أطلقت أصوات الأجراس التي تنذر بالخطر، مع تفاقم الأزمات الاقتصادية المتلاحقة على الساحة، من ارتفاع أسعار الطاقة بأنواعها، بل نقص الإمدادات لهذه المواد الحيوية، إلى تفاقم الحرب في أوكرانيا، وهي الأخطر على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية. علاوة على وصول بعض الإدارات الأوروبية اليمينية إلى الحكم هنا وهناك، وهي معروفة بعدائها المعلن لصيغة الاتحاد الأوروبية، وبالطبع لمنطقة اليورو. حتى في فرنسا التي تعد "أم" الاتحاد والضامن الأول والأخير له، فقد الرئيس إيمانويل ماكرون مزيدا من القوة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة رغم فوزه بها، لماذا؟ لأن التيار المعادي للاتحاد الأوروبي حقق قفزات نوعية ضمن النسيج السياسي الفرنسي بشكل عام، وهو يسير بقوة في الطريق، الذي ربما أوصله إلى الحكم المطلق يوما ما.
الحالة السياسية للاتحاد الأوروبي ليست مهددة، لكنها تعاني وجود ثغرات قابلة لأن تتسع، بفعل التحولات الحاصلة على الساحتين السياسية والاقتصادية في آن معا. وأزمة الديون التي بدأت تلوح في الأفق، أعادت في الواقع الأزمة المماثلة في 2010، التي وقعت فيها أربع دول، هي: البرتغال واليونان وأيرلندا وإسبانيا، حتى قبرص الجزيرة الصغيرة التي انضمت حديثا إلى التكتل الأوروبي. الموجة التضخمية التاريخية التي يمر بها الاتحاد الأوروبي ومعه منطقة اليورو، أظهرت حقيقة أن الديون الحكومية تمثل مخاطر كبرى حتى على تلك الدول التي تتمتع بالقدرة على السداد والسمعة الائتمانية العالية. هذه الديون أسقطت "مثلا" بطريقة غير مباشرة حكومة بريطانية لم تدم في السلطة سوى 44 يوما. السوق البريطانية لم تتحمل اقتراضا منفلتا، فما كان لها إلا أن تعرضت لاهتزازات قوية أدت إلى تدخل نادر جدا لبنك إنجلترا المركزي، لتخفيف الاضطرابات.
في إيطاليا، الدولة التي تنضوي تحت لواء الدول الصناعية السبع الكبرى، بلغ حجم الدين العام أكثر من 152 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهذا لا يعد شيئا مهما إذا كان الاقتصاد قادرا على الصمود لفترات طويلة. أما في ظل الأزمة الحالية، فهناك شكوك حيال هذا الصمود، علاوة على ديون اليونان التي وصلت إلى 189 في المائة، والبرتغال 127 في المائة، وإسبانيا 118 في المائة، وفرنسا 114 في المائة. حتى دولة كبلجيكا بلغ الدين فيها أكثر من 108 في المائة من حجم ناتجها المحلي. ماذا تعني أزمة ديون جديدة في منطقة اليورو، على وجه الخصوص، في وقت فشلت فيه الحكومات حقا في كبح جماح التضخم الذي يقضم دخل الأسر من كل المستويات؟
هذا يعني ببساطة، أن التاريخ القريب جدا قد يعيد نفسه، وتنطلق لاحقا حملة إنقاذ مالية لن تكون أقل زخما من تلك التي طرحت في 2010. لكن حملة الإنقاذ هذه ليست مجانية، تماما كما هي حال الأخرى المشار إليها. هناك ثمن ستدفعه الدول التي تحتاج إليها، والأهم ستطرح مزيدا من الأسئلة حول مصير الاتحاد الأوروبي كله من جانب الدول التي تعد من المنقذين التقليديين، وعلى رأسها ألمانيا. وهذا آخر ما يريده الاتحاديون الأوروبيون في هذا الوقت بالذات، حيث يراهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على تفكك الاتحاد الأوروبي، بل حلف شمال الأطلسي "الناتو". وبعيدا عن أحلام بوتين التي يصعب تحقيقها، إلا أن الأسئلة التي تخص مصير الاتحاد تظل مقلقة على المدى البعيد، خصوصا في ظل تنامي قوة التيارات السياسية الأوروبية الانفصالية.
لا شك في أن المفوضية الأوروبية لن تترك مسار أزمة الديون الحكومية المتصاعدة دون علاج، لكن السؤال الأهم يبقى محصورا في طبيعة هذا العلاج، ومدى الوصول إليه، خصوصا إذا ما عجزت واحدة من هذه الدول الأوروبية ولو لمرة واحدة عن السداد. المسألة خطيرة رغم أنها لا تزال تحت السيطرة. وإذا كانت ألمانيا حلت مشكلة 2010 بمعايير، وصفها مسؤولون يونانيون تحديدا آنذاك بأنها مهينة، فإنها ستدخل بلا شك في الأزمة الحالية كمنقذ مرة أخرى، بصرف النظر عن مستوى الإهانات أو الشروط. فليس أمام الاتحاد الأوروبي عموما سوى الحفاظ على تماسكه، خصوصا في ظل حرب على حدوده، لا يعرف حتى اليوم كيف يمكن إيقافها، وإلى أي مدى ستصل.
إنشرها