Author

وترجل العميد

|

كنا صغارا نقبل رأسه ويده اليمنى، ثم ننصرف بوداعة. نترك مسافة طويلة بيننا وبينه.
هيبته تصوغ تلك المساحة والفراغ المديد، نراقبه عن بعد بزهو.
يفرض احتراما واسعا، نقطفه من وجوه الزائرين الذين يتقاطرون كل ليلة إلى منزله العامر.
رغم أنه تقاعد منذ أعوام، إلا أن زملاءه الضباط يواصلون إلقاء التحية العسكرية عليه بحب وامتنان.
تقدير يفيض من صدورهم، وينتقل إلى أطرافهم.
نسمع أن المسؤول إذا تقاعد يتبخر رفاقه من أمامه. بيد أن جدي كسر القاعدة. يزدحم مجلسه بالمحبين.
نتسلل نحن أحفاده، إلى غرفة نومه عندما نتيقن من انشغاله مع ضيوفه.
نهرع إلى الطابق الثاني، تحديدا نيمم وجوهنا شطر خزانة ملابسه، لنرتدي زيه العسكري.
نتقاتل فيما بيننا لاعتمار قبعته، ونتصارع للبس سترته.
كل مرة نعيش حلما، عندما تسبح أجسادنا الصغيرة داخل ملابسه الرسمية الواسعة.
نعيش لحظات تفوق الوصف. عصية على التعبير.
في كل مرة نعود إلى منزله لنكرر الحلم.
نرتدي اللباس الذي نتخيله في أحلامنا، ونتذوقه واقعا في غرفته.
تحول الحلم إلى كابوس ذات يوم، عندما دهمنا جدي فجأة. ارتعدت فرائصنا من خوفنا، فلم نجد ملجأ سواه، نلوذ بالفرار إليه.
ارتعشنا بين أغصانه. خشينا أن يقرعنا ويعاقبنا.
لكنه احتضننا ببراعة، ورسم ابتسامة عريضة أضاءت وجهه الصارم، وملامحنا الطفولية.
كبرنا قليلا، وتقلصت المسافات بيننا.
أصبح يقضي وقتا أطول معنا.
يستقبلنا بقصيدة يتبعها بسؤال عن الإعراب.
أضحينا نتأهب قبل الاقتراب منه.
نسلح أنفسنا بقصائد نرتجلها أمامه.
نتبعها بعلامات إعرابها.
ينصت إلينا ونحن نناضل. يصوب أخطاءنا، وهو يبتسم، وعيناه تلمعان فخرا ومحبة. يكافئنا باصطحابنا إلى مكتبته الحافلة بأطايب الكتب في الأدب والشعر.
يسحرنا بطلاقة لسانه. يلهمنا بسخائه.
غادرنا جدي لأمي العميد عبدالله بن حمد المغلوث، بعد أعوام تشرف فيها بإدارة الشرطة في كل من القصيم وحائل والدمام والأحساء والقطيف.
ترجل مخفورا بدعوات القريب والبعيد.
بعد عقود أمضاها مخلصا لقيادته ومحبا لوطنه، داعما ومحفزا لأبنائه وأحفاده وذويه.
جعله الله من عتقائه، الفائزين بجنات النعيم. آمين.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها