كيانات تستحق الاحترام
تشتهر عبارة "لا أحد أكبر من الكيان" عند مشجعي الأندية وإعلامييها، وهي تشير إلى بقاء المنظومة بقيمها وثوابتها على الرغم من تأثير الأفراد، وتستخدم أحيانا في الشعارات الوطنية والحزبية وفي أماكن العمل كذلك. وهناك عبارة أخرى مشابهة تقول، "سيستمر الكيان ولن تنتهي الشركة إذا تركها فلان"، وتذكر دائما عند استقالات كبار الموظفين أو تهديد بعض المؤثرين بالاستقالة أو في حالات التقاعد. تكتسب الشركات التي تصل إلى مراحل النضج من نواحي الحوكمة والاستقلالية وتوسع قاعدة الشركاء والمهتمين، عدة سمات ترفع من فرص بقائها واستمرارها بغض النظر عن الأشخاص. ربما اعتقد موظف أن إغلاق خط إنتاج أو تغيير مدير أو إلغاء إدارة أو مخالفة مفاجأة ستسقط المنظومة! لكن ما يحصل في معظم الأحيان أن الظروف تختلف والأشخاص يتغيرون ويبقى الكيان.
تتعدد أنواع الكيانات المنتجة للقيمة، وأعني الشركات التجارية أو المنظومات التي تجمع مدخلات المعرفة والثروة لصنع قيمة جديدة. الترتيبات والعقود القائمة على الشراكة التجارية موجودة منذ قدم التاريخ، وتطورت اليوم بأشكال مختلفة نرى أنها استقرت في مجموعة من الكيانات التي تحدد طبيعة الملكية وآلية مشاركة الفئات المختلفة في هذا العمل، من ملاك ومديرين وموظفين وعملاء. ترتبط المنظومة بهذه العناصر في علاقة محكمة وهادفة، تكاد تكتسب شيئا من القدسية. والقدسية المقصودة هنا مرتبطة بالاحترام، من معاني كلمة "المقدس" في المعاجم العربية، أمر مبارك يبعث على الهيبة والاحترام والتفاني، وفي حالات كثيرة يرتقي العمل المؤسسي ويصل إلى ذلك.
تتفاوت الشركات في تحقيقها هذا التصور الذي ينال الاحترام، ويلمح إلى ثباتها وبقائها على مر الأزمنة. منها ما يظهر في شخصيتها كملامح الضعف والتردد وبقية مؤشرات الزوال المختلفة، وعادة لا يمثل هذا النوع خيارا جيدا للاستثمار أو الارتباط والعمل. وتستمر هذه الكيانات في التفاوت حتى نجد من يتوسط في هذه السمات وهناك طبعا من يتفوق. أما المتفوق فتجد أن القادة يمرون ويضعون بصمتهم ثم يذهبون والكيان محافظ على شخصيته ومكتسباته. ستجد أن الكيان يعزز من فكرة البقاء والاستمرار للاسم والتاريخ، ويتجدد في صنع القيمة، بغض النظر عن الأشخاص. عادة ما تكون لهذه الأماكن بيئة مميزة خاصة بها ومنافع مميزة مقدمة لموظفيها وعلاقة جيدة مع عملائها. ومع أن الأشخاص في هذه الأماكن يتغيرون باستمرار، إلا أن علاقتهم تتميز بالولاء والتقدير حتى لو ابتعدوا عنها، ومع تزايد الشغف والتفاني تدخل العاطفة في تقدير وتأكيد هذه العلاقة، وكأنها سترتقي إلى مستوى روحي. ونشاهد ونسمع كثيرا من القصص التي يتحقق فيها هذا الشغف والتفاني للكيان والمنظومة حتى لو كانت شركة ربحية بحتة.
قد أشبه الكيان التجاري الناجح والمستمر بالعلاقة الزوجية المقدسة، هناك كثير من التضحيات، وعدد من الثوابت المستمرة حتى لو اختلفت الظروف. هناك اجتماع وتعاون وتعاضد مبني على قوانين معينة، إذا نجحت يتبارك الأمر ويخرج منه ما لا يمكن أن تصنعه المدخلات الأساسية منفردة. بالطبع مع فارق التشبيه، فالعلاقة الزوجية تقديسها إلهي بينما الكيانات التجارية تدخل دائرة الاحترام والتفاني والالتزام بالبناء على تعاقدات مادية. الشاهد أن الكيان التجاري هو مجرد ابتكار مادي تعاقدي يجمع عددا من المستفيدين بشكل منظم، قد يتحول بناء على تصميمه وتنفيذه إلى كيان شبه دائم يستحق الاحترام ينجذب له الناس ويصنع لمن يقترب منه الشغف والعطاء ـ وهذا ابتكار بشري عظيم ـ ومقابل ذلك قد يتحول إلى كيان منفر مهدد بالزوال كثير التعثر يموت عنده الشغف وينعدم معه التفاني. القرار عادة في يد من يمنح فرصة إدارة وبناء هذا الكيان وتنفيذ القرار مرهون بقدرته على التأثير في فريقه.