Author

أسباب تصحيح أسعار العقارات .. وآثاره الإيجابية تنمويا

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية

تدخل الأسواق العقارية حول العالم حقبة زمنية جديدة، تختلف كثيرا عما مرت به طوال أكثر من ثلاثة أعوام مضت، ستواجه خلالها ارتفاعا مطردا لمعدلات الفائدة، نتيجة للقرارات التي اتخذتها ولا تزال تتخذها من فترة إلى أخرى البنوك المركزية حول العالم، لمحاربة التضخم المرتفع عند أعلى مستوياته خلال أكثر من أربعة عقود زمنية مضت، وتحول هذا الهدف إلى احتلاله أعلى أولويات جميع البنوك المركزية في العالم، حتى إن عديدا من تلك البنوك المركزية، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، اعترفت صراحة بأنه لا مانع لديها من التضحية بالنمو الاقتصادي، وارتفاع معدل البطالة لفترة زمنية قد تمتد إلى عامين متتاليين، وقد تتجاوزها بعدة أشهر، في مقابل انحسار معدل التضخم وعودته إلى مستوى 2.0 في المائة فما دون، ما يعني أيضا أن من ضمن الضحايا المحتملين في طريق التشدد النقدي للبنوك المركزية، الأسواق العقارية بكل تأكيد، وهو ما أكده جيروم بأول، في حديثه الأخير بعد قرار رفع الفائدة نهاية الأسبوع الماضي، بقوله، "إن سوق الإسكان الأمريكية من المرجح أن تشهد عملية تصحيح، بعد فترة من الارتفاعات الحادة للأسعار، وإنه كان هناك خلل كبير، فأسعار المنازل كانت ترتفع بوتيرة سريعة غير مستدامة، وفي الأجل الطويل، ما نحتاج إليه هو أن يتماشى العرض مع الطلب بشكل أفضل، بحيث ترتفع الأسعار بوتيرة معقولة، ما يجعل المواطنين قادرين مجددا على شراء المنازل، ربما يتعين علينا أن نمر بالتصحيح من أجل العودة إلى هذا المسار".
وكما هو معلوم، فما حدث من ارتفاعات قياسية لأسعار المساكن في مختلف الأسواق حول العالم، جاء نتيجة الانخفاضات القياسية في معدلات الفائدة، التي قابلها ضخ القطاعات التمويلية عشرات التريليونات من الدولارات، وكانت نتائجها عدا ارتفاع معدلات التضخم، أن أسعار العقارات عموما قفزت بأعلى وتيرة لها خلال أكثر من خمسة عقود زمنية مضت، ومنها بالطبع السوق العقارية المحلية، التي شهدت ضخ نحو 0.5 تريليون ريال في السوق منذ مطلع 2019 حتى ما بعد منتصف العام الجاري، الذي دفع بدوره مستويات الأسعار إلى الارتفاع بمعدلات قياسية، عدت الأعلى منذ نهاية السبعينيات الميلادية قبل أكثر من أربعة عقود.

ومع هذه المتغيرات اللافتة على مستوى جميع الأسواق العقارية عالميا، كان طبيعيا أن يتزايد الحديث محليا عن أوضاع السوق العقارية، على أثر الركود الذي خضعت له طوال الأشهر القليلة الماضية، وبدأ انعكاسه على الأسعار المتضخمة لمختلف الأصول العقارية من أراض ومنتجات عقارية، حتى إنه تحول إلى احتلاله الموضوع الأبرز على مستوى أحاديث المجالس وأغلب منصات التواصل المعاصرة، وعبر مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، ومن الطبيعي أن يختلط النقاش والحوار بجزء لا يستهان به من المصالح لدى فريق، وبقدر من الأمنيات لدى فريق آخر، وقليل جدا من لديه طرح يستند إلى الخبرة والدراية بحقائق السوق، وإلى القدر اللازم من البيانات والمعلومات المستقاة من المصادر الرسمية والموثوقة.

في الغالب لا يحظى الفريق الأخير بكثير من القبول لدى أي من الفريقين المتضادين، فريق المصالح الراغبين في مزيد من الارتفاع، وفريق الأمنيات الراغبين في مزيد من انخفاض الأسعار، وهو الأمر المفهوم أسبابه بكل تأكيد، وفي الوقت ذاته لا يهم وجود هذا القبول من عدمه، لأنه لا ولن يغير من الحقيقة في شيء، إنما الأهم في خضم هذه التجاذبات بين جميع تلك الفرق متضادة الآراء، ألا يصنع متخذ القرار في الشأن العقاري أي قرار له إلا على أسس متينة من البيانات والمعلومات الموثوقة، وأن يأخذ في عين اعتباره جميع المعطيات الاقتصادية الكلية، فينظر إلى ما تحت مسؤوليته في هذا الشأن ضمن منظومة متكاملة من الأبعاد التنموية والاقتصادية والمالية والمجتمعية، وأن تتكامل قراراته وإجراءاته مع قرارات متخذي القرار في بقية القطاعات والنشاطات ذات العلاقة.
لا توجد أي سوق حول العالم تتخذ فيها الأسعار مسارا صاعدا للأبد، ولا حتى مسارا هابطا للأبد! هذه الحقيقة التي يغفل عنها كثيرون لأي سبب كان، والتأكيد هنا أن اتجاهات الأسواق عموما مرهونة بالأوضاع الاقتصادية والمالية المحيطة، إضافة إلى السياسات الاقتصادية عموما والمالية والنقدية خصوصا، وفيما يخص السوق العقارية محليا خصوصا، فقد اقترن مصيرها بدرجة كبيرة جدا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة تحديدا بالقطاع التمويلي، وكان اللاعب الأكبر في زيادة نشاطات السوق وارتفاع الأسعار طوال تلك الفترة، التي اتسمت بانخفاض معدل الفائدة وزيادة الائتمان العقاري بصورة غير مسبوقة "0.5 تريليون ريال".
ومع التطورات الراهنة التي تشهد خلالها السوق العقارية المحلية، صورة مغايرة تماما لما حدث لها طوال أكثر من ثلاثة أعوام مضت، تحول معها معدل الفائدة نحو الارتفاع المتسارع، ووصل إلى أعلى مستوياته منذ النصف الثاني من 2008، وتراجعت أحجام القروض العقارية بأكثر من نصف مستوياتها التي كانت عليها العام الماضي، شهدت السوق العقارية انعكاساته في وقت مبكر منذ منتصف العام الجاري، وبدأت آثاره تمتد إلى الأسعار المرتفعة لمختلف الأصول العقارية مع نهاية الربع الثالث الجاري، كل هذا يجب النظر إليه على أنه أمر صحي للسوق وللاقتصاد الوطني خصوصا، الذي سيؤدي إلى عودة الأسعار نحو مناطق عادلة ومستقرة، وتكون في متناول أفراد المجتمع، وهذا بالتأكيد المكسب الأكبر الذي تتصاغر أمامه أي جوانب أخرى، أو أي مصالح ضيقة لدى المستفيدين من التضخم في أسعار الأراضي والعقارات، وأن هذا المسار بحال حدوثه، كما بدأت المؤشرات العقارية تؤكده، فهو أمر إيجابي في عمومه، ويصب في مصلحة الاقتصاد والمجتمع على حد سواء، ولا يوجد إطلاقا ما يدعو إلى الخوف منه أو التحذير.

إنشرها