Author

استذكار أزمة 2008

|

يبدو أن المملكة المتحدة، وفق المؤشرات الأخيرة التي سجلت عن الاقتصاد البريطاني، ستواجه معضلة شبيهة بأزمة 2008، إلا أن الفارق هو أن أزمة ذلك العام حصلت بعدما كان الاقتصاد يحقق 63 ربعا من النمو، بينما الأزمة الجديدة تأتي بعد 14 عاما من ركود الأجور والنمو الهزيل. ويتوقع ألا يكون هذا الاقتصاد المعني بهذه الأزمة أكثر نموا في 2025 من المسجل في 2020. وكانت جهات رسمية في بنك إنجلترا قد حذرت أخيرا من أن بريطانيا تتجه إلى ركود طويل، سيبدأ من الربع الرابع في العام الجاري، ويستمر طوال العام المقبل، ما يعد أطول ركود تدخله الدولة منذ الأزمة العالمية.
وعلى الرغم من مخاوف الركود، فإن بنك إنجلترا رفع معدل الفائدة، بأعلى زيادة منذ 1995، من أجل كبح التضخم المتفاقم. وهذا الأمر سيعقد مهمة البرنامج الاقتصادي الصعب والمزدحم لرئيسة الوزراء الجديدة، حيث تسيطر على البلاد أزمة معيشة حادة لم يمر بها البريطانيون من قبل. و"نتيجة لأزمة الطاقة الناتجة عن ارتفاع الأسعار ونقص الإمدادات، وسط العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، فإنه من المتوقع ارتفاع سقف فواتير الكهرباء بالنسبة إلى المستهلكين 75 في المائة، في تشرين الأول (أكتوبر)، ما قد يدفع ملايين الأسر إلى حافة الفقر".
ومن هنا، نرى أن الميزانية المصغرة، التي أعلنتها الحكومة البريطانية الجديدة، ستحدث تحولات كبرى على الساحتين الاقتصادية والسياسية. فقد جلبت مجموعات من التوجهات الجديدة المفاجئة حتى لعدد من نواب الحزب الحاكم نفسه. ليز تراس رئيسة الوزراء الجديدة، تريد أن تحقق النمو السريع، وتتجنب الركود المخيف. وهذا ما تسعى إليه الحكومات حول العالم، لكن الساحة ليست مستقرة اقتصاديا، ليس في بريطانيا فحسب، بل في العالم أجمع.
الميزانية المصغرة، التي أعلن عنها أخيرا، أدت إلى ما وصفه المتعاملون في بورصة لندن بخطورة التراجع الواسع والمفتوح للسندات الحكومية، ولا سيما قصيرة الأجل منها. لماذا؟ لأن الحكومة تستعد لجولة واسعة من الاقتراض لتمويل بنود الميزانية التي تضمنت دعما يبلغ 60 مليار جنيه استرليني للطاقة في ستة أشهر فقط. والاقتراض الذي تبنته حكومة تراس، سيصل في غضون خمسة أعوام إلى 400 مليار جنيه استرليني، ما يجعل الدين العام للدولة يقفز فوق إجمالي الناتج المحلي بمعدلات مرتفعة للغاية. كان طبيعيا انخفاض ارتفاع عمليات بيع السندات، ولا سيما بعد أن اقتربت السندات لأجل عامين من تسجيل أكبر انخفاض في يوم واحد منذ 2009، العام الذي تلا عام الأزمة الاقتصادية العالمية. فقيمة إصدار الديون في المملكة المتحدة زادت "وفق الميزانية المصغرة الجديدة" للعام الحالي بأكثر من 73 مليار استرليني.
ومن الواضح، أن الحكومة الحالية لو بقيت في الحكم حتى موعد الانتخابات العامة بعد عامين تقريبا، ستواصل الاقتراض، خصوصا في ظل الشكوك حول إذا ما كانت التخفيضات الضريبية ستولد النمو المأمول لهذا العام والمقبل، تحسبا للركود الاقتصادي المتوقع، الذي حددته ليز تراس بـ2.5 في المائة.
ونلاحظ أن الإشارات السلبية التي أتت من سوق لندن المالية إلى الميزانية الجديدة، أحدثت بعض التوتر على الجانب السياسي. فالجنيه الاسترليني وصل إلى أدنى مستوى له أمام الدولار منذ 37 عاما. ورغم أن هذا الانخفاض جاء أساسا نتيجة زيادة الفائدة الأمريكية أخيرا بمعدل 0.75 في المائة، إلا أن المراقبين وجدوا رابطا للانخفاض، من مستوى الاقتراض الذي جاء في الميزانية المصغرة، ما أربك المشهد على الأقل في الساعات التي تلت قراءة الميزانية في مجلس العموم البريطاني. إن تكلفة التخفيضات الضريبية الهائلة ستبلغ 45 مليار جنيه استرليني، ودعم فواتير الطاقة 60 مليار جنيه استرليني، وذلك لتأمين مسار للنمو، رغم الضغوطات الآتية من التضخم، واضطرار بنك إنجلترا المركزي إلى رفع تدريجي للفائدة، ما ينعكس سلبا - بالطبع - على حراك الأعمال والتمويل، برفع تكاليف الاقتراض إلى مستويات غير مريحة.
وعلى هذا الصعيد، ووفق تحاليل وتقارير اقتصادية صدرت أخيرا، فإن الاقتصاد البريطاني لا يزال يتجه نحو الركود، في ظل تنفيذ ليز تراس رئيسة الوزراء أجندتها فيما يتعلق بخفض الضرائب بشكل كبير. وأوضحت تلك التقارير أن التخفيضات الضريبية المقترحة، التي تقدر بنحو 39 مليار جنيه استرليني، قد تقلل من حدة الركود الاقتصادي المحتمل، لكن الاقتصاد البريطاني سيظل أقل مما هو عليه الآن، وذلك على الرغم من تصريحات رسمية بأن الركود الاقتصادي ليس حتميا. وكان صندوق النقد الدولي قد حذر الشهر الماضي من أن المملكة المتحدة تستعد لأبطأ نمو لأغنى اقتصادات مجموعة السبع في 2023.
ويواجه البريطانيون ارتفاعا غير مسبوق في تكاليف المعيشة يزيد الضغط على الحكومة الجديدة لتفعل المزيد، تخفيفا للأعباء المعيشية عن المواطنين. ولاحظ مراقبون في أحدث تدقيق لمعايير المعيشة لها، أن الأعوام الـ15 بين عامي 2004 و2019، ما قبل كوفيد وما قبل "بريكست"، كانت الأضعف في نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد منذ الأعوام بين 1919 و1934. وقد أدى انخفاض النمو في الناتج المحلي الإجمالي للفرد، إلى انخفاض النمو في الدخل الحقيقي، المتاح للأسر المعيشية.
وأخيرا، فإن الخطة الاقتصادية لحكومة تراس تستند أساسا إلى نقطة واحدة فقط، هي الاقتراض من أجل توليد النمو. فالعوائد الآتية من الضرائب على الأعمال، خصوصا تلك التي تأمل الحكومة أن تدخل السوق قريبا، ستؤمن من وجهة نظرها المسار إلى النمو على المديين المتوسط والبعيد. وإذا ما تحقق هذا النمو في الأجل المتوسط عند حدود 2.5 في المائة، فإن ذلك سيضمن بالتأكيد إدارة جيدة للديون المرتفعة حقا.
وفي كل الأحوال، ربما تتغير الصورة تماما في غضون عامين على الأكثر، في أعقاب انتخابات عامة ستحدد من سيحكم المملكة المتحدة لخمسة أعوام مقبلة. فالميزانية الكبرى، التي تعلن عادة في الشهر الثالث من كل عام - وهي ليست بعيدة - ستكرس النتائج الخاصة بالميزانية المصغرة، وستحدد في المواقع مسارات عديدة، في وقت يشهد فيه العالم أزمة اقتصادية حقيقية.

إنشرها