Author

صراعات جيوسياسية .. تمدد وتوجس

|

الباحث في ملف العلاقات بين الصين والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة وتكتل الاتحاد الأوروبي يدرك أنها علاقة قديمة ومعقدة في جوانبها السياسية والاقتصادية، ومرت بمراحل صعبة وفتور شديد خلال الأعوام الماضية بين شد وجذب، وصراعات تجارية وخلافات اقتصادية من أجل بسط النفوذ والسيطرة على العالم من خلال فرض القوة والتقدم الاقتصادي والتكنولوجي والسباق من أجل التسلح. ولم ينتج عن هذه العلاقة التوافق المطلوب والنتائج التي قد ترضي الطرفين، رغم اللقاءات المتكررة بين زعماء هذين الطرفين المتنافرين من أجل استقطاب زعامة العالم.
على هذا المنوال لم تتوقف الصين، أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم (1.4 مليار نسمة)، عن تخطي كل الحدود من أجل فرض هيمنتها الاقتصادية والتجارية وبسط نفوذها في كل أرجاء المعمورة، لأجل غاية واحدة: تحقيق الحلم الصيني. كما لم يكتف الصينيون في غزوهم بالإغراء الاقتصادي فقط، بل تجاوزوا ذلك إلى التواصل الثقافي والحشد التدريجي للقوة العسكرية تعزيزا لمكانة بكين حول العالم، وقد فعلت الصين كثيرا في هذا الاتجاه لوقف السيطرة الغربية على العالم، خاصة في القارة الآسيوية.
وفي الاتجاه الآخر، يتابع الغرب بشدة تحول حسابات المخاطر في السياسة الخارجية الصينية واتباعها نهجا طويل الأمد ومنافسا لدول الغرب والولايات المتحدة. من كان يعتقد أن الحرب الباردة قد ولت وانتهت بسقوط جدار برلين، فعليه متابعة تطورات العلاقات الأمريكية ـ الصينية، إذ يبدو أن صراع النفوذ بين العملاقين وحلفائهما قد دخل مرحلة اصطفاف جديدة تعترضها مطبات كبرى.
ومن خلال هذا المشهد، ومنذ زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي لتايوان، تأجج واشتعل الصراع وتجددت حركته، حيث شهد تصعيدا أكثر من السابق، إذ ردت الصين على تلك الزيارة بمواقف قوية، رافضة أي نوع من الهيمنة والتدخل وفرض النفوذ الغربي على تايوان الجارة المهمة اقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا وسياسيا للصين، وفي مقابل ذلك طالب وزراء خارجية دول مجموعة السبع، الذين يمثلون حقيقة أهداف الدول الغربية، بكين بعدم استخدام الزيارة ذريعة لنشاط عسكري عدواني، وانتقدت الصين ما جاء من قرارات وزراء خارجية الدول السبع، وإذا كانت مجموعة الدول السبع تعد تجمعا غير رسمي لعدة دول، فهي أكثر من سبع دول في الحقيقة. خلال الأسبوع الماضي اجتمع وزراء التجارة في المجموعة وصدر البيان الختامي عن مخاوف الدول بشأن "الممارسات غير العادلة"، مثل جميع أشكال النقل القسري للتكنولوجيا، وسرقة الملكية الفكرية، وخفض معايير العمل والبيئة لاكتساب ميزة تنافسية، والإجراءات المشوهة للسوق من قبل الشركات المملوكة للدولة، والإعانات الصناعية الضارة، كما تعهدت المجموعة بمواصلة السعي إلى إصلاح منظمة التجارة العالمية، والملاحظ أنه لم تتم الإشارة في البيان صراحة إلى الصين ولا إلى غيرها، بل أشار بوضوح إلى وجود مشكلة في التجارة الدولية تسمى الممارسات غير العادلة، والنقل القسري للتكنولوجيا. لكن الجانب الألماني أعلن بصراحة وقوة متناهية، ضرورة إقناع الاتحاد الأوروبي بوضع "سياسة تجارية أكثر قوة تجاه الصين والرد على الإجراءات القسرية التي تتخذها لحماية اقتصادها"، وهذا الإعلان من برلين يشير إلى اتفاق مجموعة الدول السبع على وجود ممارسات غير عادلة ونقل قسري للتكنولوجيا، لكن الخلاف بينها على تحديد الصين كهدف.
وإذا نظرنا ودققنا في مفهوم النقل القسري للتكنولوجيا، نرى أنه ظهر حديثا مع بيانات قادة مجموعة السبع منذ 2017، وهو ممارسة تجبر فيها الحكومة الشركات الأجنبية على مشاركة تقنيتها مقابل الوصول إلى الأسواق، كما ظهر المصطلح مع تحقيقات الحكومة الأمريكية بشأن مطالبات الحكومة الصينية بنقل التكنولوجيا والملكية الفكرية إلى الشركات الصينية باستخدام عمليات الموافقة الإدارية المبهمة والتقديرية، ومتطلبات المشاريع المشتركة، وقيود الأسهم الأجنبية، والمشتريات الحكومية، ومجموعة متنوعة من الأدوات لتنظيم عمليات الشركات الأمريكية أو التدخل فيها. وفي آخر لقاء لمجموعة السبع، وبمشاركة دول أخرى من قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية من بينها أوكرانيا، أكدوا طرح مشروع من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار، يهدف إلى تعبئة 600 مليار دولار على مدى الأعوام الخمسة المقبلة لتضييق فجوة الاستثمار العالمية، والعمل على تعزيز التعاون من أجل شراكات جديدة لنقل الطاقة العادلة مع هذه الدول المذكورة، وبينما يتم النظر سياسيا إلى هذه المبادرة على أنها مساعدة الدول النامية على معالجة تغير المناخ، فإن البعض يصفها بأنها خطوة استراتيجية للدول السبع في مقابل مبادرة الحزام والطريق الصينية.
ومع استمرار توسع مبادرة طريق الحرير والتنامي المطرد للقدرات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية للصين، فإن التصادم مع القوة الأمريكية وحلفائها من دول الغرب بتكتلاته المتنوعة، مبرمج بالضرورة في عدد من الجبهات في العالم. ومن كان يعتقد أن الحرب التجارية التي أعلنها دونالد ترمب مجرد نزوة رئيس فهو واهم. فقد بات صناع القرار في الولايات المتحدة على وعي تام بالتحدي الاستراتيجي الذي تشكله القوة الصينية بالنسبة إلى الهيمنة الغربية على العالم.
وفي ضوء الاستقطاب العالمي الحاد، فإن مفهوم التجارة العالمية أصبح محل نقاش، وهذا واضح من آراء دول الغرب خاصة الاتحاد الأوروبي التي ألمحت إلى أن فكرة التجارة العالمية أصبحت قيد الاختبار في ظل وضع جيوسياسي متوتر، كما يجب تبني سياسة تجارية متينة تجاه الصين، وطالبت مجموعة السبع بدعم الجهود المنسقة لمنع روسيا من الاستفادة من الوضع في أوكرانيا وخفض قدراتها على مواصلة الحرب، هذا في وقت قامت فيه روسيا فعليا بقطع الإمدادات من الغاز إلى أوروبا في مقابل الموقف الأوروبي ضد الحرب في أوكرانيا.
وخلاصة القضية، أنه مع هذه التكتلات الجديدة فإن كثيرا من الاتفاقيات الدولية قد تكون محل مراجعة، فيما سيزداد المشهد سخونة كلما امتد الصراع في أوكرانيا، واستمر مشروع الحزام الصيني في طموحاته الممتدة تجاه كثير من دول العالم.
كما أن القيادة الصينية مستعدة على النحو الواجب لصراع طويل الأمد والمخاطر واضحة سواء بالنسبة إلى الصين أو الغرب. ويبدو أن دول الغرب من جانبها استفادت كثيرا من دروس الحرب الأوكرانية خاصة من ناحية الضغوط الاقتصادية التي واجهتها، ولا تريد تكرار تجربتها مع روسيا في مواجهة الصين في صراع قد ينشأ مستقبلا. ورأت بالضرورة توجيه وتمرير رسائل تحذيرية لبكين لضبط علاقاتها السياسية والتجارية إذا استطاعت إلى ذلك سبيلا في ظل تمدد النفوذ الصيني المستمر.

إنشرها