Author

التراث الشعبي الشفهي

|
من النوادر اللطيفة والعميقة في آن، مقطع مرئي يصحح فيه رجل مصري بعض الأمثال الشعبية قائلا، "اسأل مجرب ولا تنسى الطبيب"، وليس "ولا تسأل طبيب"، "ومن علمني حرفا صنت له عهدا،" وليس "صرت له عبدا"، "وابعد عن الشر وقن له"، أي اجعل بينك وبينه قناة، وليس "وغني له "، فلماذا ستغني للشر أو "أنت حتغنيله ليه؟"، كما قال بمحكيته الجميلة، "وكثر السلام يجل المعرفة" من الإجلال، وليس "يقل المعرفة".
يمكننا افتراض عدم اليقين حول صحة كثير من الأمثلة والمقولات الشعبية المنقولة شفهيا في الأمثال، ولدينا اليوم حجج واضحة وعلمية للأضرار التي قد تترتب على الاقتناع بهذه الأقوال المنقولة، التي لم يخضع كثير منها للعقل أو المساءلة، إنها أحد الصراعات بين النقل والعقل أو في أحيان أخرى بين العلم والخرافة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالطب وحياة الإنسان وصحته الجسدية والنفسية.
المقولات المتداولة أو الأمثال الشعبية تعد من أهم أدوات تشكيل ثقافة الناس وأفكارهم الاجتماعية وممارساتهم الصحية والمعيشية، وسيظل الناس في حاجة إلى تناقل أو توارث المرويات الشعبية، لأنها جزء من حياتهم ومعيشتهم، فهي أحيانا جزء من التربية "إذا كبر ابنك خاويه"، وجزء من الأعمال والمهن "صنعة أبوك لا يغلبوك"، وجزء من العلاقات المالية بين الناس "دقق الحساب تدوم العشرة"، وهذا الحساب ينطبق على المال وأحسبه ينطبق على التحاسب في الأفعال وردود الأفعال بين البشر.
الإنسان يميل إلى الاقتراب من تراثه الشعبي، لأنه يمثل له ربط تجربته بتجارب والديه وأجداده وأسرته وقبيلته، أي أنه بمنزلة الامتداد في التاريخ بالنسبة إليه، والارتباط بثقافة متوارثة، وهو لا يميل إلى تفنيد كثير مما يرث أو يسمع أو يتلقى بأي وسيلة من مقولات وأمثال، لأن ذلك يخرجه من منطقة "الأمان الجماعي"، وهذا شيء يصعب على كثير من الناس عند الحديث عن مراجعة التراث.
التراث الشعبي الشفوي صامد عند كل الثقافات والشعوب، صامد لجماليته ولارتباطه بتجارب الناس، لكنه لم يسلم من التحريف والتغيير وقلب المعاني، شأنه شأن أي تراث آخر، وتحريفه استخدم كثيرا بشكل أضر ببعض فئات المجتمع أو حتى بمجتمعات كاملة ولأغراض كثيرة.
ما نحتاج إليه هو اجتهاد عقلي مثل ما فعل صاحب المقطع المرئي أعلاه، بحيث نضع كثيرا من المقولات والأمثال في دائرة التمحيص والتفكير، وأن نستخدم معها علامات الاستفهام والتعجب، لعلنا نصل إلى تصحيحها كالأمثلة أعلاه أو إلغائها من حياتنا تماما.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها