Author

الذهب الأسود منتج لم يعرف العالم مثيله

|
أستاذ جامعي ـ السويد
كل متعامل في أسواق المال والتجارة وأسعار المواد الأولية لا بد أن واجه مفاجآت كثيرة، بيد أننا قد لا نجافي الحقيقة إن قلنا إن تجارة الذهب الأسود فيها من المفاجآت ما قد لا يخطر على البال. لم تتعرض سلعة إلى تقلبات مثل النفط ولم تزد أي سلعة أخرى دقات القلب خفقانا مثل الذهب الأسود.
وقد يكون استخدامنا لمفردة "المفاجأة" من باب التلطيف، تقلبات أسعار النفط تهبط بالقلوب أو تشرح الصدور، هذا استنادا إلى الخانة التي نحن فيها بين منتج ومستهلك.
انظر ماذا تفعل أسعار النفط أو أنواع الطاقة أخرى بصورة عامة.
إنها قد تجعل من حرب مروعة مدمرة تدور حاليا رحاها في أوروبا أمرا ثانويا.
وها نحن نرى كيف تطغى أخبار الذهب الأسود على سير المعارك وكيف صارت أخبار النفط والغاز من الأهمية في مكان، وأن قيمتها الخبرية أرفع مرتبة من القيمة الخبرية لقعقعة السلاح وهدير الدبابات والمدافع.
ومفاجآت النفط تأتي أحيانا من حيث لا ندري، وتصعقنا وتجعل من المهمتين بشأنه ـ وكاتب السطور واحد منهم ـ يضربون بعشرهم على رؤوسهم لوقوع الأخطاء التي نقع فيها.
وهنا لا أقصد عدم صحة التوقعات التي نأتي بها حول الأسعار وحسب. فلقد زعم البعض بعيدا قبل نحو عامين أو ثلاثة بقوله إن عصر النفط في الاتجاه إلى أفول، وإن الاحتياطيات الهائلة ستبقى في مكانها لأن العالم الغربي ـ المستهلك الرئيس للسلعة الاستراتيجية هذه ـ في طريقة إلى الاعتماد كليا على الطاقة المتجددة.
وقدم كثير منا نصائح وإرشادات للدول المنتجة الرئيسة في الشرق الأوسط حول الخطط التي يجب عليها تبنيها وإلا تحولت إلى دول ذات مؤشرات اقتصادية عادية.
ولم نكن نحن الصحافيين ضحايا توقعات مثل هذه التي لم تصح وأظن ربما لن تصيب في المستقبل المنظور، بل كان هناك أساتذة أكاديميون سطروا أبحاثا وألفوا كتبا حول النهاية المرتقبة لعصر الذهب الأسود.
أقول وبكثير من الجزم، لم يحدث أن تعرضت سلعة إلى توقعات متشائمة مثل الذهب الأسود. في كل اختراق علمي أو تكنولوجي على طريق إيجاد بدائل للطاقة العادية، هناك أصوات تندب حظ المنتجين وتشيد بمسعى المستهلكين إلى التخلص من عبء الذهب الأسود على اقتصاداتهم.
ونسبوا للنفط ـ مقدمين دليلا علميا واحدا وراء الآخر ـ ما يعانيه العالم من مشكلات بيئية، وجعلوا نخب السلطة من حكومات ومؤسسات تؤمن بطروحاتهم وتستثمر مبالغ هائلة في التحول من الطاقة العادية إلى بدائل أخرى.
وأضحت مفردة "استدامة" ومشتقاتها على كل لسان، وأخذت الجامعات تدرس المادة ضمن مقرراتها وتمنح فيها الشهادات العليا.
وكان الشعار أن الطريق صوب عالم مستدام يبدأ بالتخلي عن استهلاك الطاقة العادية، وكانت هناك دعوات للدول المنتجة للنفط إلى الشروع في التفكير جديا أن عالما دون نفط مقبل، وهو على الأبواب.
في هذا لم يستثنوا أيا من الدول المنتجة للنفط، الذي لعب دورا استراتيجيا في اقتصاداتها ولم يضعوا في الحسبان مثلا أن النفط ليس سلعة تجارية وحسب، بل مادة تدخل في آلاف الصناعات، وأن التخلي عن النفط يعني إسدال الستار عن معامل ومصانع كبيرة في الدول الغربية ذاتها. في العام الذي سبق تفشي وباء كورونا، وصل إنتاج البلاستيك في العالم إلى نحو 400 مليون طن، وأهم عنصر أو مكون في البلاستيك هو النفط.
البلاستيك هو مجرد مادة واحدة من نحو ستة آلاف مادة يشكل الذهب الأسود مكونا رئيسا فيها.
أتت الحرب في أوكرانيا وما تبعها من عواقب على العرض والطلب وعلى الخصوص النفط ومشتقاته والغاز الطبيعي، وإذا بنا نرى أن عالم "الاستدامة" الذي بشرنا به صعب المنال.
مع كل هذا، سيبقى الذهب الأسود يفاجئنا، لكن الحرب في أوكرانيا ربما علمتنا درسا بليغا أساسه أن القفز على المحصلات والخواتيم أمر غير محبب أو بالأحرى لا يجوز الركون إليه عند تعلق الأمر بمادة استراتيجية لم يعرف العالم لها مثيلا، وهي الذهب الأسود.
إنشرها