تقارير و تحليلات

صناعة الفحم تستعيد أنفاسها .. رهانات الاستبعاد تخسر أمام تصاعد الاستهلاك

صناعة الفحم تستعيد أنفاسها .. رهانات الاستبعاد تخسر أمام تصاعد الاستهلاك

صناعة الفحم تستعيد أنفاسها .. رهانات الاستبعاد تخسر أمام تصاعد الاستهلاك

استعادت صناعة الفحم أنفاسها من جديد بعد الحرب الروسية - الأوكرانية، بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى من التلاشي والاستبعاد من معادلة الطاقة العالمية، فقبل أسابيع قليلة من الحرب كان ازدهار صناعة الفحم في القارة الأوروبية يبدو مستحيلا وسط سياسات التخلص من الفحم سواء بإغلاق مناجمه أو إيقاف العمل في محطات الطاقة التي تولد الكهرباء منه.
وقلبت الأحداث أسواق الطاقة العالمية رأسا على عقب، ومع سعي أوروبي للتخلص من الاعتماد على الوقود الروسي، بات الفحم أحد الخيارات أو البدائل المتاحة في الأجل القصير للأوروبيين لتوليد الطاقة خاصة في أكبر اقتصاداتها ألمانيا.
وتشير التقديرات الأوروبية إلى أن المتوقع أن يبلغ متوسط توليد الفحم الأوروبي 15 جيجاواط هذا العام، مقابل 11 جيجاواط العام الماضي، و8 جيجاواط عام 2020. كما أقر فرانس تيمرمانز رئيس شؤون المناخ في الاتحاد الأوروبي، أن بعض محطات الطاقة التي تعمل بالفحم يتطلب بقاؤها في الخدمة فترة أطول مما كان متوقعا لمواجهة أزمة الطاقة في القارة.
وتمثل الزيادة في استخدام الفحم في القارة الأوروبية، مسارا معاكسا لما كان عليه الوضع في الأعوام الأخيرة، فقد انخفض استهلاك الفحم أوروبيا بنسبة 40 في المائة بين 2010 و2020، وأعلنت ألمانيا وهي أكبر مستخدم للفحم في القارة الأوروبية أنها ستعمل على تسريع التخلص التدريجي إلى عام 2038، بينما التزمت المملكة المتحدة بإيقاف تشغيل منشأتها للفحم بحلول عام 2024.
إلا أن هذا الاتجاه بدأ في التحول العام الماضي، وسط زيادة سريعة في أسعار الوقود الأحفوري وارتفاع الطلب على الكهرباء، فقد زاد توليد الفحم الأوروبي 18 في المائة، وسط انخفاض في الغاز والطاقة الكهرومائية وطاقة الرياح، وتشير التوقعات الأولية لهذا العام أن توليد الفحم سيزيد بنسبة لا تقل عن 11 في المائة.
وفي مارس الماضي، أعلنت وكالة الطاقة الدولية أن 120 تيراوط/ ساعة إضافية من الطاقة التي تعمل بالفحم يمكن أن تخفض الطلب الأوروبي على الغاز بمقدار 22 مليار متر مكعب، ما يقلل الحاجة إلى الواردات الروسية من الغاز، لكن ذلك سيتطلب 50 مليون طن إضافي من الفحم في وقت يبحث المنتجون عن موردين آخرين لاستبدال 50 مليون طن من الفحم الروسي الذي تستورده أوروبا سنويا.
وقال لـ "الاقتصادية" إتش. آر. بنجامين الرئيس التنفيذي لاتحاد منتجي الفحم في المملكة المتحدة، إنه "لسوء الحظ ونتيجة الحملات المبالغ فيها من قبل بعض التيارات، لم يواكب الاستثمار في صناعة الفحم ما هو مطلوب لاستبدال المناجم المستنفذة".
وأضاف أن "عديدا من الشركات الدولية متعددة الجنسيات خرجت من صناعة الفحم الأوروبي، والأوقات الراهنة جيدة بالنسبة إلى الشركات التي لا تزال تعمل في الصناعة، لكن عليهم زيادة الإنتاج".
وتزداد مشكلة الاتحاد الأوروبي مع صناعة الفحم تعقيدا يوما بعد آخر، لأنه سيحرم قريبا من أكبر مورد له، فقد فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على الفحم المستورد من روسيا في أبريل الماضي، كما منع الحصول على مزيد من الواردات الروسية ابتداء من 10 أغسطس الحالي، وهذا يعني أن مليوني طن من الفحم تلقاها الاتحاد الأوروبي من روسيا في يوليو الماضي هي آخر شحنة يحصل عليها الأوروبيون، ما يوجد تحديا لوجستيا كبيرا لدول القارة الأوروبية، إذ عليهم الحصول على ما يكفي من الفحم قبل حلول فصل الشتاء، ونقله إلى المخازن الأوروبية لضمان توفير جزء من احتياجاتهم من الطاقة.
من جانبه، ذكر لـ "الاقتصادية" أليكس دمين المحلل في بورصة لندن للسلع، أن "إندونيسيا وجنوب إفريقيا وكولومبيا من الموردين المحتملين، لكن دول الاتحاد الأوروبي ستواجه أسعارا مرتفعة للغاية بسبب نوع الفحم عالي السعرات الحرارية الذي يستخدم عادة في جميع دول الاتحاد، وبلغت أسعار الفحم في مركز أيه بي آي 2 روتردام وهو معيار للفحم، 380 دولارا للطن، بزيادة أربعة أضعاف عن سعره في هذا الوقت من العام الماضي".
وأضاف كما أن الاتحاد الأوروبي سيواجه منافسة شديدة من لاعبين مثل الهند وكوريا الجنوبية اللتين أبرمتا اتفاقيات لاستيراد الفحم من عديد من هذه الدول.
لكن مشكلات الأوروبيين لتوفير احتياجاتهم من الفحم لا تقف عند هذا الحد، فالقضايا اللوجستية تزيد الأمور تعقيدا، فكثير من الفحم المستخدم في دول الاتحاد الأوروبي، يصل إليها عبر موانئ أمستردام وروتردام وأنتويرب على طول نهر الراين.
وأدى ارتفاع درجات الحرارة في أوروبا بصورة غير معهودة في أغسطس الحالي، وموجة الجفاف التي تضرب القارة وتعد الأسوأ منذ 500 عام، إلى انخفاض منسوب المياه في نهر الراين إلى 37 سنتيمترا، ما تعذر معه إبحار المراكب، وقلل من كمية البضائع التي يمكن أن تحملها البواخر.
ورغم أن محطات توليد الطاقة عادة ما يكون لها مخازن خاصة بها، إلا أن الفحم الذي لا يمكن تسليمه، يتم تخزينه عادة في الموانئ في انتظار نقله، لكن التقارير الأوروبية تشير إلى أن المخزونات في الموانئ الأوروبية تقترب من المستويات القصوى.
وأعلن اتحاد تجارة الفحم أن نحو ثمانية ملايين طن من الفحم عالقة حاليا في الموانئ الأوروبية، والمرجح نتيجة ذلك أن تظهر اختناقات ونقص العرض بشكل مكثف في بولندا وألمانيا، ويحتمل أن يؤدي النقص في ألمانيا التي شكلت 37 في المائة من إجمالي استهلاك الفحم الصلب في الاتحاد الأوروبي العام الماضي، إلى تداعيات مؤلمة لصناعة الصلب والكيماويات كما سيؤثر في توليد الطاقة أيضا.
وقبل الأزمة الأوكرانية كان الفحم يوفر نحو ربع توليد الطاقة في الاتحاد الأوروبي، ويتم استخراجه في 12 دولة عضوا في الاتحاد، وهناك محطات توليد طاقة تعمل بالفحم في 21 دولة عضوا، ويوظف قطاع الفحم الأوروبي 238 ألف شخص مرتبطين بشكل مباشر بأنشطة متعلقة بالفحم مثل المناجم ومحطات الطاقة.
وكانت أوروبا تخطط بأن يتم التخلص من 160 ألف وظيفة بحلول عام 2030، إضافة إلى فقدان مزيد من الوظائف في الأنشطة غير المباشرة المرتبطة بالفحم، وباختصار كان الأوروبيون يخططون لأن يجعلوا الفحم جزءا من كتب التاريخ عند حديثها عن الثورة الصناعية، إلا أن الوضع بات مختلفا الآن.
بدورها، قالت لـ "الاقتصادية" الدكتورة سارة بلاك سميث أستاذة اقتصادات الطاقة في جامعة لندن، "من بين الاقتصادات الكبرى في أوروبا لا تزال ألمانيا تعاني أكبر إدمان على الفحم، فهي أكبر مستهلك ومنتج للفحم في القارة الأوروبية، ويولد الفحم نحو ربع الكهرباء في ألمانيا، ويوظف نحو 25 ألف شخص بشكل مباشر، وفي وقت سابق من هذا الشهر وافقت ألمانيا على السماح بإعادة تنشيط محطات الطاقة التي تعمل بالفحم أو تمديد عمرها، حيث تستعد لتراجع الإمدادات الروسية من الغاز، ويمثل الغاز نحو 6 في المائة من إنتاج الكهرباء في البلاد.
وأضافت "وفقا لتقديرات تقريبية يمكن أن تعوض هذه الخطوة عن 1 إلى 2 في المائة من استهلاك الغاز في ألمانيا، لكن مشغلو الطاقة إما رفضوا إعادة تنشيط المحطات أو يواجهون صعوبات في الحصول على الفحم الضروري".
وأعلنت هيئة تنظيم الطاقة الألمانية أن المشغلين أخطروها حتى الآن بإعادة توصيل محطة واحدة فقط بشبكة الكهرباء الرئيسة من بين 16 محطة تعمل بالفحم، ويرجع ذلك لأن التكنولوجيا المستخدمة في محطات الفحم تعد قديمة وغير متوافقة مع التكنولوجيا المستخدمة في خطوط الطاقة الرئيسة في البلاد.
وقبل الحرب الأوكرانية قطعت أوروبا خاصة ألمانيا شوطا ملحوظا في التوقف عن توليد الكهرباء من محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، لكن الشوط الذي قطعته أوروبا في أعوام، خسرته في أشهر معدودات نتيجة الحرب والعقوبات المفرطة من قبل الاتحاد الأوروبي على روسيا، وتبدو أوروبا اليوم كأنها خسرت التحدي بأنه يمكن فطامها من الاعتماد على الفحم، حيث تبدو صناعة الفحم الأوروبي كأن الروح دبت فيها مرة أخرى بعد أن كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات