Author

جموح التضخم .. فائدة مرتفعة

|

منذ إعلان البنك المركزي الأمريكي أخيرا رفع أسعار الفائدة لأعلى معدل منذ عقدين لكبح جماح التضخم، يعيش المستثمرون مع الأسواق العالمية حالة ترقب وقلق جراء هذا الوضع الصعب الذي يعد أكبر زيادة في أسعار الفائدة منذ أكثر من عقدين. ويأتي هذا التحرك من "الاحتياطي الأمريكي" في إطار معركته الحالية لمواجهة ارتفاع الأسعار السريع، حيث رفع سعر الفائدة بشكل قياسي بمقدار نصف نقطة مئوية، إلى نطاق يراوح بين 0.75 و1 في المائة بعد زيادة طفيفة سابقة في آذار (مارس) الماضي.
وكان التضخم في الولايات المتحدة قد شهد أعلى ارتفاع في 40 عاما، ومن المتوقع أن يواصل الارتفاع مستقبلا. وتمثل زيادة الفائدة أحدث الجهود الأمريكية لاحتواء ارتفاع تكاليف المعيشة التي باتت تؤرق العائلات في أنحاء العالم. بدورها اتخذت بنوك مركزية كثيرة في دول العالم إجراءات وخطوات مماثلة في هذا الاتجاه.
ويرى محللون وخبراء اقتصاديون، أن القرار الأمريكي يلقي بظلاله على عديد من الاقتصادات الناشئة، خاصة أنه دفع عديدا من البنوك المركزية حول العالم إلى التحرك لرفع مماثل لأسعار الفائدة، الأمر الذي يهدد بزيادة أعباء الديون على الدول النامية ورفع معدلات البطالة، فضلا عن تراجع القوة الشرائية للعملات المحلية، إضافة إلى خروج ما يطلق عليه "الأموال الساخنة"، وهي تدفقات مالية من خارج الدولة بغرض الاستثمار والاستفادة من وضع اقتصادي معين.
ومن هذا المشهد القاتم على اقتصادات دول العالم، فإذا أراد المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي مواصلة معركته مع الموجة التضخمية الهائلة التي تضرب الولايات المتحدة، يجب عليه الاستمرار في سياسة رفع الفائدة التي لجأ إليها بعد أعوام عديدة من تركها عند حدودها الصفرية. ولا توجد أسلحة أخرى في الواقع أمامه، لتحقيق "انتصارات" في هذه المعركة. لكن المواجهة ليست سهلة. فضغوط الأسعار لا تزال تضرب في كل الاتجاهات، رغم أنها تباطأت بعض الشيء الشهر الماضي. كما أن المستوى المحدد للتضخم من قبل المشرعين الأمريكيين عند حدود 2 في المائة، لا يزال بعيدا جدا عن المعدل الحالي له، حيث سجل الشهر الماضي 8.6 في المائة. والحق أن 2 في المائة، تعتمدها كل اقتصادات الدول المتقدمة منذ عقود، وباتت الآن بمنزلة العبء جراء فقدان السيطرة القوية على مسار التضخم هنا وهناك عموما.
التلميحات الأخيرة للمشرعين الأمريكيين باستمرار زيادة أسعار الفائدة، جاءت في الواقع في سياق طبيعي. فتكاليف الاقتراض بلغت حاليا في الولايات المتحدة 2.5 في المائة، وهي نسبة عالية بالفعل مقارنة بمستوياتها المنخفضة لأعوام عديدة. وإذا ما استمرت وتيرة زيادة الفائدة، فقد تصل بنهاية العام الجاري إلى ما بين 3.5 و3.75 في المائة. صحيح، أن المشرعين الأمريكيين كلهم يرغبون في الإبقاء على الفائدة المنخفضة أطول فترة ممكنة، لكن تطورات الأوضاع الاقتصادية الراهنة على الساحة المحلية، لا تترك مجالا للأمنيات. فالنمو يتأثر مع كل رفع للفائدة، وربما تقود سياسة الفائدة الحالية الاقتصاد إلى دائرة الركود. وانكمش بالفعل الشهر الماضي، لكن البيت الأبيض لا يزال يصر على أن ما يحدث ليس إلا مجرد تباطؤ.
وبصرف النظر عن التسميات أو التوصيفات الخاصة بحالة الاقتصاد الأمريكي، ستكون المهمة في غاية الصعوبة إن لم تكن شبه مستحيلة أمام "الاحتياطي الفيدرالي"، في الضغط على التضخم وجلبه عند حدود 2 في المائة. وما عليه الآن سوى مراقبة البيانات الاقتصادية لتحديد مستوى الزيادة المستحقة للفائدة. ولا بد من الإشارة إلى أن بعض هذه البيانات ليست سيئة خصوصا في مجال التوظيف، لكن العوامل السلبية الأخرى غطت في الفترة الماضية على القفزات التي تحققت في ميدان التشغيل.
وفي كل الأحوال، فإن ارتفاع تكلفة الاقتراض أقل ضررا من الناحية السياسية المحلية، مع زيادة تكاليف العيش. لكن السؤال المطروح هنا يتعلق مباشرة بمدى القدرة على إحداث فرق محوري في مستويات التضخم، عبر زيادات هامشية للفائدة؟ ويبدو واضحا أن القرار الذي اتخذ مطلع هذا العام بالتخلي عن استراتيجية الفائدة الصفرية، سيشكل العلامة الأبرز على الأقل حتى منتصف العام المقبل.
الفائدة المرتفعة تبقى الوسيلة الحقيقية المتاحة في هذا المجال، رغم كل مؤثراتها السلبية في النمو، فضلا عن الأعباء الهائلة التي تضيفها على الديون السيادية حول العالم. فأغلبية هذه الديون مقومة بالدولار، والفائدة المرتفعة عليه تزيد من تكاليفها، ما رفعت الأصوات لتجميد الفوائد المفروضة عليها، أو إعادة جدولتها، أو حتى شطب نسبة منها. وبصرف النظر عن الآثار السلبية من هذه الناحية، تبقى المسألة المهمة، هي تلك الخاصة بمدى قدرة "الاحتياطي الأمريكي" على كبح جماح التضخم، ولا سيما في ظل موسم انتخابي محوري مهم في الولايات المتحدة. فالانتخابات النصفية التي ستجري في أقل من ثلاثة أشهر، تؤثر مباشرة في الانتخابات الرئاسية التي لم يتبق لها سوى عامين من الآن.
لا حلول جاهزة في المشهد الاقتصادي الأمريكي حاليا، سوى اللجوء إلى "السلاح" التقليدي وهو رفع الفائدة. والحق أن هذا هو "السلاح" الوحيد في الاقتصادات المتقدمة خصوصا، التي تخشى الدخول في دوامة طويلة الأمد بسبب تضخم لم تتمكن جهة حتى الآن من إعلان "الانتصار" عليه.

إنشرها