Author

ليست تقنيات فحسب .. نفوذ

|

يخوض العالم معركة شرسة جديدة على وقع صناعة أشباه الموصلات، وسط مساع أمريكية وأوروبية للاكتفاء الذاتي، ومحاولة اللحاق بالركب الذي تقوده حاليا تايوان، موطن أكبر شركات صناعة رقائق الحاسوب في العالم.
سيتعين على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي تخوض معركة موازية مع الصين، أن تدرس استراتيجيتها بعناية، وتتعلم من دروس الماضي، لتأمين مركزها في هذه الصناعة الأكثر استراتيجية وأهمية. وتستمر أزمة نقص أشباه الموصلات في الضغط على كل مصنعي السيارات في العالم، رغم توقع المحللين وخبراء المال أن تشهد الأزمة انفراجة خلال العامين المقبلين، وهو ما لم يحدث حتى الآن، فخالف كل التوقعات مع تصاعد وتيرة الأزمة وتفاقم مشكلة نقص الرقائق الإلكترونية. المعاناة التي تواجه الحراك الصناعي العالمي عموما، جراء النقص في صناعة أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية، ليست جديدة. والأزمة التي تركها هذا المنتج الصغير بحجمه، المحوري بأهميته، ستستمر حتى 2023، وفق تقديرات الجهات المختصة.
حتى إن بعض المسؤولين في الإدارة الحالية في واشنطن، ينظرون إلى المسألة من جانب الأمن القومي، من فرط أهميتها في القطاع الصناعي المتقدم عموما. لكن التحرك الأمريكي هذا يتطلب وقتا، لتظهر نتائجه على أرض الواقع.
ومن هنا يعتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن، أن بلاده استهانت بصناعة أشباه الموصلات "الرقائق الإلكترونية" التي ابتكرتها، وسمحت للدول الأخرى بإنتاجها، بحيث باتت هذه الدول مسيطرة بصورة شبه تامة على هذه الصناعة. هناك بعض الصحة في هذا الاستنتاج، إلا أن الدول التي يقصدها بايدن، حققت تقدما كبيرا في صناعة "الرقائق"، كما وفرت المنتج بأسعار عالمية أفضل من تلك الأسعار التي تفرضها جهات غربية أخرى مصنعة.
المشكلة الآن لا تكمن بمن بدأ هذا المنتج الصغير بحجمه الكبير بقيمته في مختلف الصناعات، بل في تراجع وتيرة الإنتاج، وارتفاع الطلب عليه، وانخفاض معدل الاستثمارات في هذا القطاع الحيوي في الأعوام الماضية. كانت الولايات المتحدة - والغرب عموما - تعتمد على إنتاج "الرقائق" من الخارج، لسبب واحد فقط، هو أن أسعارها أقل من تلك المنتجة محليا.
الخطوة التي أقدم عليها الرئيس الأمريكي أخيرا، عبر إصداره قانون مساعدات لقطاع أشباه الموصلات تبلغ 52 مليار دولار، كان أمرا وخطوة ضرورية وإن جاءت متأخرة. إلا أن عوائده لن تظهر على الساحة قريبا، لأن الضغوط الناجمة عن نقص "الرقائق" تزيد من المصاعب أمام الصناعات، بما في ذلك صناعة السيارات في الولايات المتحدة وأوروبا. ولا توجد مساحات أمام قطاع السيارات في الغرب للمناورة بهذا الخصوص، ما يبرر التراجع الأخير في الإنتاج، وإمكانية مواصلة هذا التراجع في الأعوام المقبلة، مقابل تصاعد واضح لصناعة السيارات الآسيوية، التي تمكنت من المرور إلى بر الأمان حتى في عز الضغوط التي تركتها جائحة كورونا على الساحة العالمية، والعوامل والظروف الاقتصادية التي سببتها الحرب الروسية ـ الأوكرانية. واللافت أيضا أن أسعار السيارات المنتجة في الغرب ارتفعت أيضا، بينما لم يكن الأمر كذلك في ميدان السيارات المصنعة في آسيا.
كل هذا يحدث بسبب النقص المخيف في إنتاج "الشرائح الإلكترونية"، وهو أمر دفع المفوضية الأوروبية إلى طرح مشروع تمويل جديد لهذه الصناعة تصل قيمته إلى 15 مليار يورو في الفترة القصيرة المقبلة. المشكلة أيضا تكمن في أن المنافسة بين الشرق والغرب لن تكون سهلة. صحيح أن الولايات المتحدة وأوروبا تريدان الاستحواذ على الحصة الكبرى من صناعة "الرقائق" مستقبلا، لكن الوضع الراهن أيضا أن دولا مثل: الصين وروسيا وكوريا الجنوبية وبالطبع تايوان، تتصدر المشهد العالمي في هذا القطاع، كما أنها تمتلك بنية تحتية جيدة في هذا المجال. وإذا كانت جزيرة تايوان حليفة الولايات المتحدة المثيرة للجدل، الجهة الأكثر إنتاجا لـ"الرقائق"، إلا أن صناعتها تعتمد بصورة كلية على مواد أولية آتية من الصين، وفي مقدمتها بالطبع الرمل الطبيعي المستخدم في هذه الصناعة، فضلا عن استخدامه في قطاعات البناء والتشييد وغيرهما.
وإذا لم يتمكن الغرب عموما من سد الثغرة الواسعة على صعيد إمدادات أشباه الموصلات، وبوتيرة سريعة، فإن كثيرا من الصناعات التي تدخل فيها "الرقائق" معرضة لأن تتراجع في إنتاجها. لكن السيارات ستكون الأهم، ما يطرح سؤالا كبيرا، حول استدامة الريادة التقليدية الأمريكية والأوروبية في هذا الميدان المحوري عالميا. على الغرب أن يحل مشكلة ليست جديدة، إنما استفحلت في الآونة الأخيرة، وهو يدفع الثمن حاليا جراء نقص الإمدادات، لأنه اعتمد على الواردات الأقل تكلفة، دون أن يضع في حسبانه إمكانية حدوث أزمات في هذا المجال. ولأن المسألة خطيرة، بات كثير من المشرعين في الغرب يضعونها ضمن الأمن القومي والمتطلبات الأساسية لحماية البلاد من الهجمات العدائية بجميع أنواعها، خاصة من جهة الصناعات المحلية، ومن حماية شبكة المعلومات التي يمكن أن تتسرب عبر منتجات من أشباه الموصلات آتية من الخارج، خصوصا في مجالات الجيل الخامس للشبكة الدولية.

إنشرها