Author

النازحون .. أزمة بلا حدود

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"إذا لم تحل أزمة الغذاء، فإن أعداد النازحين لن تتوقف عند حد"
فيليبو جراندي، المفوض الأممي لشؤون اللاجئين

ازدحم هذا العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بأعداد هائلة متصاعدة من النازحين واللاجئين، في ظل حروب نشبت لأسباب عديدة، في مقدمتها تلك المرتبطة بالمشكلات الجيوسياسية، والدينية والطائفية والعرقية، فضلا عن التدخلات الخارجية في هذا البلد أو ذاك. ويبدو واضحا، أن العالم الذي يعيش مرحلة هي الأخطر على الإطلاق منذ الحرب الثانية، سيصل إلى حالة أكثر فوضى بهذا الخصوص، ما يرفع حدة التحديات والتكاليف والجروح المفتوحة، ويضرب في الوقت نفسه، الإنجازات التي تحققت بالفعل خلال عقدين من الزمن عبر المشاريع الإنمائية التي أطلقتها الأمم المتحدة تحت توصيف «أهداف الألفية». هذه المشاريع خفضت الفقر ووسعت رقعة وصول التعليم إلى مناطق تحت خط الفقر، ووفرت خدمات أساسية: الكهرباء والمياه والسكن، فضلا عن الخدمات الصحية التي كانت غائبة تماما.
اليوم تعلن الأمم المتحدة أن أعداد النازحين قسرا عن ديارهم بلغت 100 مليون نازح، وهو رقم لم يسجل في التاريخ. والحق أن هذا العدد الهائل تعاظم بفعل الحروب بلا شك، إلى جانب مشكلات الغذاء المتفاقمة في مناطق عديدة، تعمقت أكثر في أعقاب نشوب الحرب في أوكرانيا، لتظهر هشاشة الآلية الأممية في مواجهة الأزمات الإنسانية عموما. فقد أثبتت الأحداث والتحولات التي حدثت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، افتقار الجهود الدولية للاستدامة بهذا الشأن. ولو أضفنا الآثار التي تتركها الكوارث الطبيعية في الساحات الأكثر هشاشة، فإن المشهد الإنساني يزداد قتامة وبؤسا. والمسألة تزداد تعقيدا، لأنها تشمل الأطفال من كل الأعمار. فبنهاية العام الماضي بلغ عدد الأطفال الذين نزحوا من جراء الصراعات والعنف والأزمات الأخرى المتعددة «بحسب اليونيسيف»، 36.5 مليون طفل، وهو أعلى رقم "مرة أخرى" منذ الحرب الثانية. فحرب أوكرانيا وحدها أدت إلى فرار مليوني طفل من هذا البلد.
تمثل نسبة طالبي اللجوء أو النازحين أكثر من 1 في المائة من إجمالي سكان العالم. وتصاعدت أعداد هؤلاء منذ الحرب العالمية الثانية التي خلفت 60 مليونا منهم، بينهم 12 مليون ألماني. وتسببت الحرب في شبه الجزيرة الكورية التي نشبت في 1950 في نزوح خمسة ملايين كوري. وولد الصراع في أفغانستان نحو مليوني نازح منذ 1979. وبسبب المواجهات العنيفة والوحشية التي جرت في رواندا في 1994، قتل مئات الآلاف وأجبر أكثر من مليوني شخص على النزوح من منازلهم. وبحسب المنظمات الإنسانية، أدت المواجهات في ميانمار منذ 2012 حتى الآن إلى "توليد" 1.4 مليون نازح ضمن الحدود، وعشرات الآلاف خارجها. ومنذ 2003 وصل عدد النازحين العراقيين إلى 4.7 مليون شخص. وتقدر الأمم المتحدة عدد النازحين السوريين داخليا وخارجيا منذ 11 عاما بـ11.6 مليون شخص. فضلا عن أعداد هائلة لهؤلاء خلال الحرب في البلقان. وهذا العام نزح ثمانية ملايين أوكراني ضمن حدود بلادهم، ووصل عدد اللاجئين منهم إلى خمسة ملايين تقريبا.
لا يمكن وصف العدد الحالي للنازحين حول العالم إلا بالصادم، صحيح أن نسبة من هؤلاء اضطروا للنزوح بسبب الكوارث الطبيعية، مثل الفيضانات والجفاف والأعاصير والزلازل وغيرها، لكن الصحيح أيضا أن العدد الأكبر منهم نتج عن حروب متنوعة، فشل المجتمع الدولي في محاصرتها، واللجوء إلى الأدوات السياسية لحلها. والذي يزيد الأمر تعقيدا بهذا الشأن الآن، أن العالم في واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية منذ الحرب الثانية، ما زاد من الضغوط على الحكومات حول العالم، بما فيها تلك التي تدخل في قائمة الدول المانحة. فهذه الأخيرة تواجه بالفعل مصاعب اقتصادية، دفعت بعضها إلى خفض مساهماتها الإنسانية، بما في ذلك تقليل عدد النازحين واللاجئين الساعين للحصول على حقوق اللجوء فيها. علما بأن العدد الحالي للنازحين يشتمل على 53.2 مليون شخص نزحوا ضمن حدود دولهم، أما الباقي فدخلوا ضمن قوائم طالبي اللجوء.
أزمة النازحين ستتفاقم في الأعوام القليلة المقبلة، في وقت لا توجد فيه أي مؤشرات تدل على انفراجات سريعة للصراعات المختلفة حول العالم، وتواجه الأمم المتحدة ضغوطا كبيرة أيضا بسبب تراجع التمويل الخاص ببرامجها لرعاية شؤون النازحين واللاجئين، كما أن أزمة الغذاء العالمية تضيف مزيدا من الضغوط، لأن أعدادا جديدة من النازحين تتشكل بفعل نقص وصول السلع الغذائية الأساسية إليهم. مع ضرورة الإشارة إلى أن المصاعب الاقتصادية العالمية، رفعت من مستوى المشاعر العنصرية في كثير من المجتمعات، التي تعتقد بأنها أولى بالدعم أكثر من النازحين الآتين إليها. يحدث هذا حتى في دول أوروبية وفي الولايات المتحدة. أي في الدول القادرة اقتصاديا على مواجهة الأزمات بصرف النظر عن طبيعتها. وفي الأعوام الماضية زادت وتيرة الجرائم العنصرية هنا وهناك، وليس أمام الدول النافذة في هذا العالم، إلا العمل على مواجهة أزمة النازحين المتصاعدة، عبر توظيف أمثل للنزوح واللجوء، طالما أن إنهاء الصراعات لا يزال بعيدا، بل مستحيلا في الوقت الراهن.
إنشرها