Author

الابتكارات المفقودة

|

*أستاذ وباحث في الهندسة والأنظمة الابتكارية

المتابع للنمو والتطور التكنولوجي والتقني الهائل الذي نشاهده في هذه الفترة الزمنية المتقاربة، لا شك أنه يصاب بالدهشة لهذا التسارع والتسابق الرهيب، ولا ريب أن المقولة التي تنص على أن العبرة بالكيف وليس بالكم لا تنطبق على عالم الابتكارات، حيث إن التنافس بين دول العالم في ريادة هذا المجال التكنولوجي والتقني يعتمد على كمية الابتكارات وتطبيقاتها "الكيفية" المختلفة، التي تسهم بدور كبير في نموها الاقتصادي وتطور قوتها وإمكاناتها الدفاعية، إلا أن هناك كثيرا من الابتكارات ما زال يعد مفقودا، وهو عنوان مقالي اليوم، وأقصد بذلك أي الابتكارات غير المفعلة، ولم يتم إنتاجها وتطبيقها على أرض الواقع، وما زالت حبيسة الأدراج وتقبع في أرشفة وأدراج مكاتب الملكيات الفكرية.

لذا سأتناول الحديث عن ذلك، وكيف استطاع بعض الدول الاستفادة من برامجها ومبادراتها الخاصة في إيجاد بيئة مناسبة جاذبة لاحتواء كل الابتكارات ذات القيمة المجدية وجعلها ابتكارات فاعلة من خلال إشراك كل الفئات من جميع المستويات المختلفة، وجعل ذلك أحد العناصر المهمة التي تسهم في تطور مجتمعاتها واقتصاداتها.
نرى أن بعض الدول الريادية في مجال الابتكارات النوعية المختلفة بدأت العمل على تحقيق الاستفادة من كل الإمكانات لتفعيل كل الابتكارات التي قد تكون مفقودة، والعمل على تهيئة البيئة المناسبة لاستقطاب جميع الأطياف المفقودين في هذا المجال، ومن تلك الدول الولايات المتحدة، على سبيل المثال، نجد أن لديها مؤسسة للعلوم الوطنية National Science Foundation: NSF وهي تعد واجهة الابتكار الأمريكي لأكثر من سبعة عقود، وهي في طليعة البحث والابتكار والتعليم في الولايات المتحدة، ودعمت اقتصادها ورفعت قدرتها التنافسية على مستوى العالم من خلال الاستثمار في الابتكارات بمختلف أنواعها وتطبيقاتها، وأعلنت أخيرا، إنشاء مديرية جديدة تهتم بكل ما يخص الابتكارات المفقودة والتكنولوجيا والشراكات تحت مسمى Technology، Innovation and Partnerships: TIP، بميزانية تقدر بـ865 مليون دولار خلال 2022 فقط، ومن أهدافها العمل على إشراك جميع المواهب، خصوصا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، وتمكين جميع المواطنين بغض النظر عن خلفياتهم العلمية أو مواقعهم في مؤسسة البحث والابتكار الأمريكية، وذلك للسعي وراء الحصول على أبحاث وابتكارات جديده "مفقودة"، إضافة إلى أن أحد أهداف هذه المديرية هو تسريع ترجمة نتائج الأبحاث والاختراع للاستخدام العملي كابتكارات ذات قيمة مفيدة وفاعلة، وتسهم في إيجاد فرص اقتصادية استثمارية واعدة، وتحقيق فرص وظيفية عالية الأجور، من خلال منصة سميت من المختبر "المعمل" إلى السوق Lab-to-Market Platform خاصة بها، ومن خلال عدة مبادرات Initiatives، تشمل هذه المبادرات عدة برامج لهذا الغرض، ومن ذلك على سبيل المثال، برنامج شراكات من أجل الابتكار Partnerships for Innovation: PFI، حيث يوفر هذا البرنامج للباحثين الأكاديميين وغيرهم الفرص لتطوير وتنفيذ خريطة طريق لابتكاراتهم وتطويرها إلى نماذج أولية وزيادة التأثير لاكتشافاتهم.

ومن المبادرات أيضا، مبادرة برنامج تحفيز الأبحاث التنافسيةStimulate Competitive Researchs Program: SCRP وذلك لتعزيز القدرات التنافسية البحثية في "الولايات والأقاليم" الأمريكية، من خلال محافظ استثمارية تبدأ من تنمية المواهب إلى البنية التحتية المحلية، ومن ضمن البرامج أيضا برنامج صندوق دعم الأصول America’s Seed Fund الذي يهدف إلى دعم الاكتشافات العلمية والهندسية وتحويلها إلى منتجات وخدمات ذات تأثير اقتصادي واجتماعي من خلال دعم وتمويل البحث والتطوير والابتكار لنحو 400 شركة ناشئة في جميع أنحاء الولايات المتحدة بمبلغ يقدر بأكثر من 200 مليون دولار، وغيرها عديد من البرامج المدعومة بشكل مباشر من الحكومة التي من شأنها الإسهام في تهيئة البيئة الابتكارية لتلافي أي ابتكار أو ابتكارات مفقودة.
وفي المملكة لدينا كثير من الابتكارات، والطلبات سواء كانت اختراعات أو نماذج صناعية لباحثين أو باحثات أو شركات أو مؤسسات أو مراكز أو هيئات بحثية من داخل المملكة أو خارجها، يتم تسجيلها لدى الهيئة السعودية للملكية الفكرية لكونها تعد المكتب الوطني المعني بتسجيل طلبات حقوق الملكية الفكرية في المملكة، وهي تقوم بدور فحص وتقييم هذه الطلبات المقدمة، وفي حال قبولها يتم منح وثائق الحماية الخاصة بالطلب وتوفير المعلومات المتعلقة بتلك الحقوق، والمتصفح للموقع الإلكتروني للهيئة السعودية للملكية الفكرية، يستطيع الوصول لكثير من المعلومات عن هذه الطلبات، حيث بلغ إجمالي إيداع الطلبات الخاصة لبراءات الاختراع حسب الإحصائيات الأخيرة، 47.051 طلبا وبلغ إجمالي المنح لوثائق الحماية 10.496 من تلك الطلبات، وفيما يخص النماذج الصناعية تشير الإحصائيات إلى أنه بلغ إجمالي الإيداع لهذه الطلبات 12.771 طلبا، تم منح وثائق حماية لـ10.154 طلبا منها، إلا أنني أرى أنه ما زالت هناك معوقات كثيرة أدت إلى أن يكون هناك كثير من الابتكارات المفقودة، تحدثت عن بعضها في مقال سابق بعنوان «الابتكار وتحدياته الحالية»، ومنها نقص في ثقافة الوعي والإلمام بأهمية تسجيل الفكرة وحفظ الحقوق، أو عدم إلمام البعض بخطوات التسجيل والقدرة على تحويل أفكارهم وكتابتها بالنسق والصياغة والنماذج المطلوبة من هيئة الملكيات الفكرية، وارتفاع رسوم التسجيل "الخاصة بالأفراد"، إضافة إلى طول فترة الفحص والتقييم، ما يفقد كثيرا من الابتكارات أهميتها، لذا قد يكون من المناسب أن تكون هنالك مبادرة ذات مسارات تخصيصية محددة تبدأ من مسار الاكتشاف للمبدعين وإشراك جميع الفئات من جميع الأعمار، ويشمل هذا المسار برامج تدريبية وتثقيفية وتشجيعية وغيرها، ثم تكون هناك مسارات تبني الابتكارات تشمل الدراسة والتقييم وقابلية التطبيق، من خلال بيئة اختبارية Prove of Concept: POC، وهذا المسار يتطلب ربطا تكامليا مع الجهات ذات العلاقة "الهيئات البحثية والدفاعية"، ثم يأتي المسار المهم وهو مسار بناء الشراكات سواء مع القطاع الخاص أو العام أو شبه الحكومي، للدعم اللازم لهذه الابتكارات، وأن يكون هناك أيضا مسار آخر أيضا متكامل مع المسارات السابقة وهو برنامج لتسريع وتبني الابتكارات الكامنة لدى هيئة الملكية الفكرية ذات الجدوى الاقتصادية بعد دراستها بالتكامل مع الجهات المعينة بالبحث والتطوير والابتكار والجهات التصنيعية، ويتم التركيز على ما يصب في العملية التطويرية والفائدة الاقتصادية والاجتماعية والقوة الدفاعية، ويكون هنالك ربط إلكتروني معلوماتي متكامل لهذه المبادرة وبرامجها، وهذا سيساعد - في نظري - كثيرا على تمكين وتفعيل الابتكارات المفقودة، وسيدعم وبشكل كبير جدا قطاع البحث والتطوير والابتكار، وسيسهم بشكل فاعل في تحقيق تطلعات رؤية مملكتنا 2030 في هذا الاتجاه.

إنشرها