Author

سياسات مالية بلا هدر

|

مع إطلاق برامج رؤية المملكة العربية السعودية 2030 بنهاية 2016 كان برنامج التوازن المالي أهم تلك البرامج وأكثرها تحديا، وجاء البرنامج طموحا في وقت كانت أسعار النفط تتهاوى، بينما كان الاقتصاد السعودي يعتمد على الإيرادات النفطية بشكل شبه كامل، ما أحدث شكوكا في قدرة الاقتصاد على التوازن، بل كان هناك تخوف من عدم القدرة على الوفاء بالتزامات مالية أساسية في ظل حجم الميزانية الضخم مع تراجع الإيرادات وضعف هيكلتها في مقابل ذلك، جاء برنامج التوازن المالي من أجل تحقيق مستهدفات عدة من بينها رفع كفاءة الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي، وتصحيح أسعار الطاقة والمياه، وتنمية الإيرادات الحكومية غير النفطية، وإعادة توجيه الدعم للمستحقين "برنامج حساب المواطن"، ونمو القطاع الخاص، وكان البرنامج أداة للتخطيط المالي متوسط المدى لاستدامة وضع المالية العامة وتحقيق ميزانية متوازنة.
حقق البرنامج عديدا من الإنجازات فيما يتعلق بالأنظمة الوطنية المتعلقة بالمالية العامة، وساعد كذلك في السيطرة على نسب العجز من الناتج المحلي الإجمالي من 15.8 في المائة في 2015 إلى 4.5 في المائة في 2019، كما تحسنت الإيرادات غير النفطية لتصل إلى أكثر من 400 مليار خلال 2021، ما عزز المركز المالي للدولة ودعم آليات التعامل مع الصدمات الخارجية، وتم تطبيق عديد من الإصلاحات الهيكلية في عملية إعداد الميزانية العامة للدولة ورفع جودة تنفيذ الميزانية، وأثبتت الأحداث الاقتصادية التي تزامنت مع انتشار فيروس كورونا مدى سلامة هذه الإصلاحات الاقتصادية رغم تراجع أسعار النفط في بداية الأزمة إلى مستويات تاريخية واختلال منظومة العرض في السوق، لكن المملكة استطاعت تجاوز ذلك كله، بل ودعم الاقتصاد والمتضررين مباشرة من الإجراءات الاحترازية، ما أسهم في الخروج سريعا من ذلك المنعطف والعودة إلى مسار النمو القوي ليحقق الاقتصاد السعودي نموا قويا 2021، مع توقعات بأن يصل نمو إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، وفقا لتوقعات الصندوق إلى 7.6 في المائة في العام الحالي، واحتواء التضخم، إضافة إلى تزايد قوة مركزها الاقتصادي الخارجي نتيجة تنفيذ الإصلاحات الهيكلية التي ضمنت تحقيق انتعاش قوي وشامل وصديق للبيئة، وتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع النمو غير النفطي في المملكة إلى 4.2 في المائة، وزيادة فائض الحساب الجاري إلى 17.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
هذه التوقعات الإيجابية والتحليلات الاقتصادية لبرامج الرؤية تؤيدها نتائج المالية العامة بالأرقام الفعلية، فقد حققت الميزانية السعودية خلال الربع الثاني من العام الجاري فائضا بنحو 77.9 مليار ريال، بعد أن بلغت الإيرادات 370.36 مليار ريال مقابل مصروفات بلغت 292.5 مليار ريال، هو أعلى فائض فصلي منذ انطلاقة برنامج التوازن المالي، الذي أصبح الآن برنامجا للاستدامة المالية، وهذا الفائض أعلى من المقدر بعدة أضعاف، حيث كان الفائض المقدر في موازنة 2022 نحو 90 مليار ريال، أي بمتوسط 22.5 مليار ريال ربعيا.
بالطبع لا يمكن تجاهل أن هذا الفائض الكبير جاء على غرار ارتفاع أسعار النفط، التي تجاوزت 100 دولار، لكن من المؤكد أن الإصلاحات التي تحققت خلال الأعوام الماضية منذ انطلاقة الرؤية قد أسهمت في هذا التفوق لميزانية هذا العام، وأسهمت الإصلاحات في جانب النفقات في تخفيض الهدر، الذي كان السمة العامة عندما ترتفع الإيرادات النفطية، ويفقد الصرف كل مساره المخطط، لكن الآليات التي يدار بها الاقتصاد حاليا تسهم في المحافظة على التدفقات النقدية الإيجابية، كما لا يزال النمو في الإيرادات غير النفطية مستمرا، حيث بلغ 3 في المائة لتبلغ 120 مليار ريال مقابل 115.95 مليار ريال في العام السابق.
ومن الملاحظ أن المصروفات ارتفعت 16 في المائة لتبلغ 292.45 مليار ريال مقابل 252.7 مليار ريال في الفترة نفسها من العام الماضي، لكن هذا الارتفاع يعود جزئيا إلى تنفيذ أمر ملكي صدر بالموافقة على تخصيص دعم مالي بمبلغ 20 مليار ريال لمواجهة تداعيات ارتفاع الأسعار عالميا، وذلك بناء على ما رفعه ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية الأمير محمد بن سلمان، في ضوء دراسة مجلس الشؤون الاقتصادية برئاسته لتطورات الأوضاع الاقتصادية في العالم وسبل حماية أبناء وبنات الوطن من الأسر المستحقة من التأثر بتداعياتها، حيث تم توجيه 10.4 مليار ريال تحويلات نقدية مباشرة لدعم مستفيدي الضمان الاجتماعي، وبرنامجي حساب المواطن، ودعم صغار مربي الماشية، على أن يخصص بقية المبلغ لزيادة المخزونات الاستراتيجية للمواد الأساسية والتأكد من توافرها.
ومن هنا، فإن التوازن الاقتصادي مهم للغاية كجزء من تحقيق أهداف السياسة المالية في الحفاظ على الاستقرار المالي وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام ومساندة مرحلة التحول الاقتصادي والاجتماعي، التي تمر بها السعودية، وفقا لرؤية 2030.

إنشرها