Author

بيانات متضاربة وارتباك الأسواق

|

طرح عديد من الخبراء الاقتصاديين والمنظمات الدولية المهتمة والمختصة بمتابعة مؤشرات النمو لدول العالم تساؤلات عن الوضع الذي شهده الاقتصاد الأمريكي خلال الفترة الأخيرة، حيث سجل انكماشا للربع الثاني على التوالي من العام، في خطوة تعد في كثير من الدول ركودا اقتصاديا، فحدوث انكماش، بمعدل سنوي قدره 0.9 في المائة خلال الأشهر الثلاثة حتى يوليو الماضي لفت الانتباه على نطاق واسع مع تنامي المخاوف بشأن الاقتصاد، خاصة بعدما سجلت الأسعار الأساسية والبنزين والسلع الأخرى زيادة بأسرع وتيرة لها منذ 1981.
البنك المركزي الأمريكي اتخذ قرارا برفع تكاليف الاقتراض بسرعة، في مسعى إلى تهدئة الاقتصاد وتخفيف ضغوط الأسعار، وتتنامى المخاوف من حدوث ركود، إذا لم يكن قد بدأ بالفعل.
السؤال المطروح في الوقت الراهن، هل هذا الركود الاقتصادي قد يؤدي إلى انكماش الاقتصاد الأمريكي مجددا وحدوث كساد عام؟
على صعيد آخر، يفضل المسؤولون الأمريكيون الحديث عن التباطؤ الاقتصادي، على اعتبار أنه يدخل ضمن الحالة الاقتصادية العالمية، لمجموعة من العوامل، في مقدمتها تأثيرات الحرب في أوكرانيا، والضغوط التي لا تتوقف، الآتية من جهة الموجة التضخمية المتصاعدة. الرئيس الأمريكي جو بايدن، يرى أنه لا توجد مفاجأة في تباطؤ الاقتصاد، وأنه في المسار الصحيح.
الهم الأول للإدارة الأمريكية حاليا، هو إبعاد ما يمكن وصفه بشبهة الركود عن الساحة المحلية، رغم انكماش الاقتصاد فعليا في فصلين متتاليين، مقابل توقعات بارتفاع النمو ضمن حدود 0.5 في المائة في الربع الثاني.
الولايات المتحدة تستعد لموسم الانتخابات النصفية التي تعد مؤشرا بصورة أو أخرى إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، فأي ركود ستتحمله الإدارة بصرف النظر عن ماهيته وأسبابه.
يرى مراقبون، أن الرسائل الآتية من واشنطن بشأن الاقتصاد متضاربة وتشوش المسار، فلا بد من تسمية الأشياء بأسمائها وفق هؤلاء، فإذا كان هناك ركود، فلماذا لا يتم إعلانه، والعمل على مواجهته بصورة مناسبة؟
ويقاوم ذلك البيت الأبيض مدعوما من جانيت يلين وزيرة الخزانة، التي أكدت أن الدهشة ستصيبها إذا ما أعلن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية دخول اقتصاد البلاد دائرة الركود، فهي تعتقد كبايدن أن التباطؤ السمة الرئيسة حاليا، وأن الاقتصاد قادر على تجاوزها، بصرف النظر عن المدة الزمنية لذلك.
بالطبع هناك جانب سياسي واضح في مسألة الاعتراف من عدمه بوجود الركود، وهذا ينسحب في الواقع على معظم الدول المتقدمة، التي تحاول حكوماتها تقليل الصدمات النفسية الناجمة عن التضخم، وتراجع التجارة والتصنيع، ومشكلات سلاسل التوريد، وأزمات الطاقة المختلفة. إلا أن لدى وزارة الخزانة الأمريكية حجة تستند إليها لتعطيل إعلان الركود في الولايات المتحدة، وهي ترتبط بقطاع التوظيف الذي حقق قفزات معقولة في الفترة الأخيرة، ومعه أيضا الإنفاق الاستهلاكي الذي لا يزال قويا، إلى جانب وتيرة إغلاق الأعمال، التي تعد بسيطة مقارنة بغيرها في الاقتصادات الغربية الأخرى. إلا أن السياق الذي يمضي فيه الاقتصاد الأمريكي، لا يخفف من قوة هذه الحجة، فالذي يهم المواطن حاليا، فواتير الغذاء، والطاقة والإسكان، والقطاع الأخير هذا يمثل مشكلة تتصاعد يوما بعد يوم، جراء ارتفاع تكلفة الاقتراض، حيث ارتفعت الفائدة 225 نقطة أساس، في الوقت الذي يخطط فيه المجلس الاحتياطي الفيدرالي استهداف مواصلة زيادة الفائدة، حيث قد تصل بنهاية العام الجاري إلى ما بين 3.4 و3.5 في المائة.
الفائدة المرتفعة، التي يبدو أنها الأداة الوحيدة أمام المشرعين الأمريكيين لكبح جماح التضخم، تعزز الخوف من دخول الاقتصاد المحلي بشكل كبير ميدان الركود، فسياسة التيسير الكمي التي اعتمدها في الواقع معظم الدول المتقدمة، لم تعد موجودة رغم أنها كانت ضرورية لمواجهة آثار جائحة كورونا. كما استغل الجمهوريون الأمريكيون الوضع، ليؤكدوا أن الاقتصاد الوطني دخل بالفعل مرحلة الركود، وهؤلاء يستندون في الواقع إلى حجج عديدة، على رأسها الانكماش الذي ضرب الاقتصاد في الربعين الأول والثاني من هذا العام، ولذلك لم يكن غريبا أن يقول جيروم باول رئيس "الفيدرالي الأمريكي"، "إن الأرقام الأخيرة تحتم علينا النظر بتشكك"، الأمر الذي وضعه في مواجهة مع البيت الأبيض المصر على وجود تباطؤ وليس ركودا.
الرسائل المتضاربة والمعطيات الموجودة على الساحة، أربكت بالفعل المشهد الاقتصادي الأمريكي، وأعطت رسائل مشوشة للخارج أيضا، فالجدل القائم على توصيف الحالة، لا يبدو أنه يخدم الحقيقة، مع العلم بالمآرب السياسية لمسؤولي البيت الأبيض، الذين يستعدون لانتخابات نصفية حساسة.

إنشرها