Author

لا يمكن «معاندة» الفائدة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"منطقة اليورو مهيأة للدخول في دائرة الركود، أكثر من الولايات المتحدة"
جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية

كانت كريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، تعتقد بأن اقتصاد منطقة اليورو يمكنه تحمل ضربات الموجة التضخمية الراهنة، كما تحمل "طعنات" الأزمة الاقتصادية التي ولدتها جائحة كورونا. وعلى أساس هذه القناعة عاندت ثم عاندت أي دعوة لها لرفع بسيط للفائدة، من أجل حماية قيمة اليورو، والمساهمة في كبح جماح التضخم. كانت تستهدف تحقيق النمو بأي طريقة، وبأي مستوى، بصرف النظر عن التكاليف الاقتصادية، رغبت في أن ترفع من زخم وتيرة "تعويضات" ما بعد كورونا، أي النمو، إلا أنها اصطدمت بحقيقة أنه لا يوجد بنك مركزي واحد في البلدان المتقدمة يمكنه أن يتحمل مستويات فائدة منخفضة جدا، في ظل تضخم بعيد عن السيطرة، بلغ أعلى مستوياته منذ أكثر من أربعة عقود. المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي" تخلص من سياسة الفائدة شبه الصفرية ليبدأ سلسلة من عمليات رفع الفائدة، لن تنتهي قبل حلول العام المقبل على الأقل.
تحت الضغوط المتصاعدة، أقدم "المركزي الأوروبي" على رفع الفائدة نصف نقطة، وهذا معدل مرتفع بالفعل مقارنة بالسياسة الصفرية للفائدة. وقبل هذه الخطوة بأيام اقترب سعر صرف الدولار الأمريكي الذي يشهد ارتفاعا تلو الآخر بسبب زيادة الفائدة الأمريكية، من مستوى اليورو لأول مرة منذ إطلاق العملة الأوروبية الموحدة قبل أكثر من عقدين من الزمن. ورغم أن هذا الجانب يبقى ضمن النطاق النفسي، إلا أنه في النهاية مؤشر يعده المشرعون الأوروبيون خطيرا إذا ما استمر لفترة طويلة. مع رفع الفائدة الأوروبية لم يتحسن اليورو كثيرا، إلا أنه ضمن قوة أكبر في المحافظة على الحاجز النفسي مع الدولار الأمريكي خصوصا. وقوة الدفع الأكبر ستكون حاضرة في المستقبل القريب، إذا ما صحت التسريبات بأن "المركزي الأوروبي" سيقدم على رفع جديد للفائدة قبل نهاية العام الجاري، أو حتى في المراجعة المقبلة.
أسئلة كثيرة تطلق على موقف "المركزي الأوروبي" من الفائدة. والسؤال الأهم يبقى دائما مختصا بفائدة التمسك بمستوى فائدة صفري تقريبا. الذي حدث، أن هذا البنك اتبع استراتيجية التيسير الكمي منذ 2015، أي قبل وصول لاجارد إلى رئاسته بأربعة أعوام على الأقل. منطقة اليورو كانت ترغب في المحافظة على نمو مرتفع مستدام، لإزالة ما تبقى من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2008. استهوت هذه السياسة الرئيسة الحالية لـ"المركزي"، على أمل أن تحقق عوائد على صعيد النمو، وإن كان ذلك على حساب اليورو. الأمر ليس مهما، طالما أن وتيرة التوظيف كانت تسير بالسرعة المأمولة، ولا مشكلات من جهة التضخم أو سلاسل التوريد، أو أي منغصات أخرى، كالحرب الجارية في أوكرانيا حاليا، مثلا. وفي مطلع العقد الماضي، لم تكن هناك أصلا معارك تجارية مؤثرة.
الأوقات تتغير وتتبدل معها المفاهيم حتى الثوابت، خصوصا على الساحة الاقتصادية التي تتأثر مباشرة بالتطورات عالميا. فالتضخم وصل في منطقة اليورو، الشهر الماضي، إلى 8.6 في المائة بمعدل سنوي، وهو أعلى من كل التوقعات. وسجل في بلد مثل فرنسا أكثر من 10 في المائة، وكذلك الأمر في إسبانيا. وهذه المستويات غير مسبوقة منذ 1985. وضغوط التضخم في منطقة اليورو مستمرة، أكثر من المناطق الأخرى حول العالم، بفعل الانعكاسات المباشرة للحرب في أوكرانيا عليها. فأوروبا عموما تعاني حقا مخاطر نقص الطاقة على اختلاف أنواعها، بعد أن "اكتشفت" أنها لا تمتلك في الواقع استراتيجية بعيدة المدى في مجال أمن الطاقة، ولا حتى على المدى المتوسط. ما زاد من ضغوط التضخم من ناحية الطاقة الآتية تحديدا من الجانب الروسي.
صحيح أن الأوروبيين يعملون حاليا على التخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية، إلا أن الأمر ليس سهلا ويتطلب وقتا واستثمارات ضخمة واتفاقات سياسية وتحالفات، وغير ذلك من العوامل التي تعزز استقلالية منطقة اليورو من جهة النفط والغاز خصوصا. لكن يبقى الهم الأكبر حاليا محاصرة التضخم بأي شكل من الأشكال، وإن أدى ذلك إلى مرحلة من الركود لا أحد يرغب حتى في ذكرها. ومنطقة اليورو، تبقى الساحة المعرضة لإمكانية "الإصابة" بالركود في أي وقت، فيما لو قورنت بالوضع الاقتصادي الراهن في الولايات المتحدة. وليس أمامها سوى أن تمضي في مسارات الدول المتقدمة الأخرى نفسها، التي رفعت "سلاح" الفائدة للسيطرة على التضخم الذي دفع ببعض البلدان إلى اعتماد نظام قسائم الإعاشة التي كانت توزع أيام الحروب.
"المعاندة" في الفائدة، لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا إذا كانت الأوضاع الاقتصادية أكثر استقرارا، وآفاق النمو أكثر وضوحا. وهذا ليس متوافرا في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها العام كله. إنها مرحلة صعبة تتطلب مرونة، حتى تنازلات، بعيدا عن العنجهية والأوهام الاقتصادية.
إنشرها