Author

التضخم العالمي بين التفاقم والسيطرة

|
سجلت الولايات المتحدة أخيرا معدلات تضخم مقلقة لم تسجلها منذ ثمانينيات القرن الماضي. وبلغ معدل التضخم فيها خلال حزيران (يونيو) الماضي 9.1 في المائة، مرتفعا بنصف نقطة مئوية عن الشهر الذي قبله.
في الجانب الآخر من الأطلنطي، سجلت المملكة المتحدة معدل تضخم مشابه للولايات المتحدة، كما شهدت منطقة اليورو ارتفاعا في معدلات التضخم إلى 8.6 في المائة الشهر الماضي، أما في آسيا فقد سجلت اليابان معدل تضخم في حدود 2.5 في المائة، وهو منخفض نسبيا بالمعايير العالمية، لكنه مرتفع بالمعايير اليابانية، بينما وصل في الهند إلى 7 في المائة، وعموما سجلت معدلات التضخم في أرجاء العالم تصاعدا خلال الأشهر الأخيرة.
يعود ارتفاع معدلات التضخم العالمية عموما إلى أسباب رئيسة عدة أبرزها، السياسات المالية والنقدية التوسعية أثناء الجائحة وفترة التعافي منها، التي من المرجح مبالغتها في ضخ النقود. ويصعب في العادة تحديد مقدار التوسعات المالية والنقدية المناسبة للتعافي من الأزمات الاقتصادية وغير الرافعة لمعدلات التضخم. من جانب آخر، أسهمت طبيعة التعافي الرافع للطلب على السلع والمنتجات بدلا من الخدمات في تحفيز أسعار كثير من المنتجات، خصوصا المعتمدة على التقنية. إضافة إلى ذلك، خفضت معضلات شبكات التوريد وفرة عديد من المنتجات المهمة ورفعت أسعارها. وبرزت معضلات شبكات التوريد بعد الجائحة وفاقمتها التحولات الهيكيلية العالمية متزايدة الاعتماد على التقنية والشرائح الإلكترونية. وما كاد العالم يتنفس الصعداء من آثار الجائحة حتى نشبت في الأشهر الأخيرة الأزمة الأوكرانية، التي رفعت مستويات عدم اليقين، وفاقمت نتائجها ظاهرة التضخم العالمية الأخيرة ورفعت أسعار المواد الغذائية والطاقة إلى مستويات عالية. اعترفت البنوك المركزية بسوء تقديرها ارتفاع معدلات التضخم العام الماضي عندما عدته عابرا ومؤقتا، وتبين هذه الأيام أنه غير ذلك، ما سيرفع تكاليف ضبط معدلاته مستقبلا. وتستخدم البنوك المركزية بصورة استباقية معدلات الفائدة للحد من ارتفاع الأسعار المستقبلي المتوقع. ويقود التأخر في استهداف التضخم، إلى حدوث موجات تضخمية يستغرق التغلب عليها فترة من الزمن.
تحمّل الحكومات البنوك المركزية مسؤوليات السيطرة على التضخم، وفي الوقت نفسه تتحمل جزءا من المسؤولية. وتملك البنوك المركزية أدوات نقدية قوية للتأثير في الأسعار، لكنها تتطلب انسجام السياسات المالية معها. وتقوم البنوك المركزية برفع معدلات الفائدة والحد من السيولة للحد من الطلب الرافع للأسعار، الذي يتكامل مع فرض سيطرة أقوى على الإنفاق الحكومي. وتتأثر سياسات الإنفاق الحكومي بالعوامل السياسية، التي تحد من سيطرة الحكومات على الإنفاق. وتتطلب السيطرة على التضخم أيضا ثقة الجمهور برشد السياسات المالية والنقدية، وبالتالي دعمه لها وثقته بالسندات الحكومية وإقدامه على اقتنائها. وترتفع في بعض الدول الغربية حاليا مخاوف من تراجع الثقة بالسياسات الحكومية، بسبب تفاقم الديون الوطنية وتكاليف خدمتها عند رفع معدلات الفائدة.
ترتفع الآمال بقرب تلاشي معضلات شبكات التوريد وتأثيراتها السعرية مع التوسعات الإنتاجية الجارية والمقبلة، وكذلك نتيجة لتراجع معدلات نمو الطلب مع انخفاض معدل النمو الاقتصادي العالمي. من جانب آخر، من المرجح تراجع الضغوط على قطاعات الشحن البحري، الذي ارتفعت تكاليفه أخيرا، ما سيقلص مساهمته في رفع معدلات التضخم. أما الأزمة الأوكرانية وحربها ونتائجها التي أسهمت في دفع أسعار المواد الغذائية والطاقة وعدد من المعادن الأساسية، فلا يبدو حتى الآن أن هناك حلا قريبا لهذه الأزمة. ومن المرجح أن تخف بعض آثار الحرب مع مرور الوقت ونمو إنتاج الطاقة والغذاء لدى باقي العالم، ما سيحد من تضخم أسعار الأغذية والطاقة ويخفض معدلات التضخم العالمي.
سجلت معدلات التضخم الأساسي تراجعا خلال الأشهر الثلاثة الماضية في الولايات المتحدة، وبلغ معدل التضخم الأساسي في يونيو 5.9 في المائة. ويقل هذا بنحو 3.2 في المائة عن المعدل العام للتضخم، لكنه أعلى من المستويات المستهدفة البالغة 2 في المائة. ويتم استثناء أسعار الطاقة والمواد الغذائية من التضخم العام للحصول على معدل التضخم الأساسي.
تسجيل معدلات التضخم الأساسي معدلات تقل عن معدلات التضخم العامة من الأمور الإيجابية التي ترفع إمكانية السيطرة على التضخم الحالي. ومن العوامل الإيجابية المهمة للسيطرة على التضخم أيضا ازدياد خبرات وتجارب البنوك المركزية العالمية وتمتعها باستقلالية أكثر مما كان موجودا خلال موجات تضخم سبيعينيات وثمانينيات القرن الماضي. لكن ارتفاع الديون الوطنية في الدول المتقدمة، خصوصا الولايات المتحدة واليابان والدول الغربية، يفاقم تكاليف رفع الفائدة، ما قد يكون عائقا أمام دفعها إلى النسب الضرورية للسيطرة على التضخم.
تضاعف حجم الدين الوطني في الولايات المتحدة بأضعاف عدة حتى غدا يضاهي الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يرفع تكاليف خدمة الدين الوطني الأمريكي إلى نقطة مئوية من الناتج المحلي عند رفع معدلات الفائدة بنقطة مئوية واحدة. وقد تتطلب السيطرة على التضخم الحالي رفع الفائدة الأساسية بخمس أو ست نقاط مئوية، ما يعني استحواذ تكاليف خدمة الديون الوطنية على جزء متعاظم من إيرادات الدول يجبرها على خفض النفقات الأخرى، وسيجد عديد من الحكومات صعوبات كبيرة في السيطرة على التضخم، ما يهدد بتفاقمه في بعضها أو الدخول في ركود يصعب التكهن بعمقه ومدته.
إنشرها