Author

أزمة الطيران العالمية .. الخسائر وعودة النشاط

|
مر قطاع نقل الركاب الجوي بأزمة حادة أثناء جائحة كورونا، حيث تأثر بقوة من الإغلاق العظيم والقيود الصحية الصارمة المفروضة عليه التي حدت من كفاءته ورفعت تكاليف السفر الجوي. عاد قطاع السفر الجوي بصورة تدريجية بعد الإغلاق وتخفيف القيود الصحية إلى ممارسة نشاطاته، لكنه لم يتحرر كليا من آثار الجائحة. وما كادت السيطرة على الجائحة تحل حتى نشبت الحرب الأوكرانية التي قادت إلى فرض عقوبات اقتصادية شديدة على روسيا من قبل الدول الغربية. وشملت العقوبات قطاع النقل الجوي، حيث منعت الطائرات الروسية من المرور فوق أجواء أوروبا وأمريكا الشمالية وأغلقت روسيا مجالها الجوي الشاسع أمام الملاحة الغربية، ما أطال كثيرا من خطوط الطيران ورفع تكاليف النقل الجوي. وتسببت الحرب الأوكرانية أيضا في قفزة في أسعار الوقود، رفعت بدورها تكاليف النقل الجوي بما لا يقل عن 10 في المائة.
تراجعت حركة الطيران بسبب جائحة كورونا بنحو الثلثين، وخسر القطاع والخدمات ذات الصلة ما يقارب نصف تريليون دولار أو نحو نصف إيراداته في 2020. ونتيجة لذلك عانى القطاع شح سيولة حادا تولدت عنه أزمة مالية شديدة لشركات الطيران هددت وجودها واستمرارية العمل فيها، كما فقد القطاع ملايين الوظائف. ولم يقتصر الأمر على شركات الطيران، حيث شملت الأزمة جميع القطاعات ذات العلاقة، بما في ذلك خدمات المطارات ومقدمو خدمات الملاحة الجوية والمصنعون وجميع سلسلة القيمة في خدمات وصناعة الطيران.
أجبرت الأوضاع المالية والشلل الجزئي لنشاطات قطاع الطيران خلال أزمة كورونا، شركاته والجهات المرتبطة، على تبني تدابير قوية ومستعجلة لمواجهة الضغوط المالية وحماية نفسها من الإفلاس. شملت تلك الإجراءات بالطبع خفضا كبيرا لحجم العمالة، التي يملك كثير من أفرادها مهارات وخبرات طويلة تراكمت على مر الأعوام. وقادت التطلعات المتشائمة وقت الجائحة، إلى افتراضات غير دقيقة حول توقيت عودة الأمور إلى طبيعتها، ما خفض قدرة القطاع على تلبية عودة الطلب بعد التعافي من الجائحة.
يشهد كثير من مطارات العالم حاليا ازدحاما شديدا وطوابير انتظار طويلة وإرباكا وفوضى وفقدان أمتعة وضياعها وتغيير مواعيد وإلغاءات غير معهودة في تاريخ الطيران. ويعود ذلك بالطبع، إلى الإجراءت التي اتخذتها شركات وإدارات قطاع الطيران وخدماته أثناء الجائحة. وتلغى هذه الأيام مئات الرحلات يوميا في مطارات الولايات المتحدة وأوروبا، كما تصاعدت أسعار السفر الجوي بقوة خلال موسم العطلات الصيفية الحالي. ويحاول القائمون والعاملون في قطاع الطيران تحسين الخدمات والتعامل مع الضغوط وإرباكات المطارات عن طريق خفض عدد الرحلات، الذي جاء على حساب راحة المستهلكين وتعمق في جيوبهم.
جاء تراجع خدمات الطيران نتيجة للسياسات المتخذه أثناء الجائحة التي خفضت عدد العمالة إلى مستويات غير قادرة على تقديم الخدمات المعهودة قبل الجائحة. ولم تصب إدارات قطاع الطيران عندما تجاهلت حقيقة عودة الطلب على خدماتها، وتراخت في التأهب بشكل سليم ومسبق لتوظيف كوادر كافية للوفاء بالتزاماتها عند عودة الطلب إلى مستوياته المعهودة. من جهة أخرى، أسهمت سياسات التعامل مع الأزمة بشكل عام في ولادة بعض الظواهر السلبية بعد الجائحة، ومن ضمنها أزمة الطيران الحالية. وركزت تلك السياسات على سبل التعامل مع الجائحة والتعافي منها، ولم تتخذ الاحتياطات اللازمة لضمان سلاسة عودة الأنشطة الاقتصادية إلى مستوياتها المعتادة. وتسعى شركات وإدارات الطيران والخدمات المساندة جاهدة هذه الأيام، إلى توظيف عمالة إضافية لتحسين أدائها وتلبية الطلب المتصاعد، لكن طبيعة الصناعة والخبرات التي تحتاج إليها ومتطلباتها الأمنية تحد من سرعة اكتمال كوادرها العاملة. ويعاني قطاع الطيران مثلا قلة مراقبي الطيران، ما يؤثر في حركة الطائرات، ويخفض الرحلات ويطيل بعضها. ومرة أخرى تثبت تجربة قطاع الطيران أن تسريح العمالة سهل، لكن توظيف عمالة بالمهارات والخبرات نفسها أصعب بكثير.
تركز سياسات التعامل مع الأزمات في القطاع الخاص على خفض التكاليف قصيرة الأجل للتعامل مع الضغوط المالية. وتقوم الشركات في البداية بتسريح العمالة لأنها خطوة سهلة وعاجلة في خفض التكاليف المتغيرة. أما محاولات إنقاذ القطاعات الاقتصادية التي تقوم بها الحكومات، فتقدم الدعم للشركات وتحرص قدر الإمكان على تفادي التدخل في سياسات الشركات الداخلية. وحاول قليل من الشركات التعامل مع الأزمات من خلال خفض حجم العمل للعامل الواحد بدلا من خفض حجم العمالة ككل. وكان الهدف من ذلك الاحتفاظ بأكبر حجم عمالة لتجنب معضلات وتكاليف البحث عن عمالة عند عودة دورة الأعمال إلى وضعها المعتاد. ويبدو أن هذه الطريقة أنسب من سياسات تسريح العمالة واسعة النطاق التي تقوم بها الشركات أثناء الأزمات. إضافة إلى ذلك ينبغي أن تركز الحكومات بدرجة أكبر ـ أثناء الأزمات الاقتصادية ـ على سياسات وجهود الاحتفاظ بالعمالة والتشغيل الجزئي لها بدلا من عمليات تسريحها ورفع معدلات البطالة. ويمكن من خلال هذه السياسات خفض تكاليف دعم البطالة، وكذلك تسريع عودة الأنشطة الاقتصادية إلى سابق عهدها بعد فترات الركود الاقتصادي.
.
إنشرها