Author

دولار مربك ونمو مرتبك

|

لا شك أن الوتيرة السريعة التي يعتمدها "الفيدرالي الأمريكي"، في رفع معدلات الفائدة لديه، تزيد من المخاوف والضغوط على الاقتصادات الناشئة، بل تأثرت - حتى لو بمستويات بسيطة جدا - منطقة اليورو من تلك التوجهات التي يمكن وصفها بالنادرة. المسألة واضحة، لم يستطع المشرعون الأمريكيون العثور على آلية تمكنهم من الحد من الموجة التضخمية التي يواجهونها، إلا بالأداة التقليدية المعروفة، وهي رفع الفائدة المنخفضة أصلا، وهذا هو الإجراء الوحيد لخفض الأسعار في كل مكان، بعد أن بلغ التضخم في الولايات المتحدة أعلى مستوى له منذ أربعة عقود، بينما لا تستطيع أي إدارة سياسية في البلاد تحمل تبعاته الاجتماعية التي سرعان ما تنتقل وتهدد مصير هذه الإدارة أو تلك في الحكم.
الفائدة المرتفعة، التي من المتوقع أن تواصل ارتفاعها على الساحة الأمريكية حتى نهاية العام الجاري على الأقل، تعني عملة أمريكية قوية، والدولار القوي يأتي بالضرورة بضغوط متعاظمة على اقتصادات الدول الناشئة، بل يجلب الضغوط حتى إلى الساحة المحلية، عبر تأثر الصادرات سلبا بقوته. وإذا كان الاقتصاد الأمريكي بقوته وحجمه يتحمل تراجعا مرحليا في ميدان الصادرات، فإن الاقتصادات المرتبطة بصور مختلفة بالعملة الأمريكية تنوء تحت ضغوط الدولار القوي، فكلما كانت العملة الأمريكية أقل قوة كان الحراك المالي والاقتصادي عموما في هذه الدول أكثر فاعلية، ولا سيما على صعيد الديون، التي تمثل في النهاية قيودا شبه دائمة في ساحاتها.
مشكلة الديون خصوصا تعمقت أخيرا على الصعيد العالمي حتى في أوساط الدول المتقدمة، ومن الواضح أن المخاوف تزايدت خلال الفترة الأخيرة، ولا سيما مع تمسك "الفيدرالي الأمريكي" بسياسة رفع الفائدة للسيطرة على التضخم. لماذا؟ لأن الدولار القوي يقوض وتيرة نمو التجارة العالمية، بالنظر إلى أنه العملة الأساسية المتداولة في تسوية معظم المعاملات التجارية، فعندما يرتفع الدولار تتراجع قيمة العملات الأخرى، خصوصا في الدول النامية التي تواجه أصلا فواتير اقتصادية ضخمة نظرا إلى الآثار التي تركتها جائحة كورونا. ولا شك أن ذلك سيقلل من الجدارة الائتمانية لهذه الدول، ما يهدد الحراك الاستثماري فيها، حيث إن معظم ديون الدول الناشئة مقومة بالعملة الأمريكية.
صحيح أن بعض الدول تستفيد من انخفاض عملاتها برفع مستوى صادراتها، لكن الصحيح أيضا أنها ستكون تحت ضغوط موازية من خلال زيادة تكلفة الاستيراد للسلع المختلفة، بما في ذلك السلع الأولية، والتكنولوجيا وغيرها. الدولار القوي يشجع رؤوس الأموال على الوصول إلى السوق المالية الأمريكية، حيث الفائدة المرتفعة المعززة للعوائد، وفي الأغلب ما يقدم أصحاب رؤوس الأموال على شراء الدولار في ظل فائدة عالية، كملاذ أكثر أمنا وسط وضعية تتسم بعدم اليقين الاقتصادي. أمام هذه العوامل وغيرها، تضطر الاقتصادات الناشئة إلى السماح لعملاتها بالانخفاض أو التدخل لوقفها عند حدود منخفضة، ولا يمكنها أن تسمح بتجاوزها، ولا تنفع عادة إجراءات رفع الفائدة على العملات المشار إليها، إلا في حدود ضيقة وقصيرة الأجل، فسرعان ما تعود إليها أجواء القلق، وترتفع الضغوط الآتية من أكثر من جهة.
الدولار القوي يبقى مهددا لاقتصادات الدول الناشئة إلى حين عودته إلى المستويات التي تسمح بعودة الحراك إلى ما كان عليه سابقا، فضلا عن عودة مسار خدمة الديون المتراكمة إلى وضعية تحافظ في النهاية من خلالها على جدارتها الائتمانية، وتسمح لها في الوقت نفسه باستقطاب مزيد من الاستثمارات، وتمكنها من تحقيق المستوى المقبول للنمو، وتساعدها بالطبع على كبح ما أمكن لها من معدلات التضخم لديها، لكن لا يبدو أن المشرعين الأمريكيين سيعودون إلى سياسة الفائدة المنخفضة المعهودة على الأقل في المستقبل المنظور.

إنشرها