البلاغة .. بين الصمت والكلام
تعد القدرة على الكلام، نطقا وكتابة وإشارة، أساس عملية التواصل، التي مهدت الطريق للإنسانية نحو التقدم والرقي والازدهار في مدارج التحضر. هكذا أضحى الكلام مقدسا، فلولاها ما سمع الناس متون النصوص الدينية، ولا أقوال الشعراء وحكم الفلاسفة وبلاغة الحكماء.. حتى قيل إن "الكلام تجل، والصمت أفول". لا يتردد أرنست هيمنجواي الأديب الأمريكي في إبداء تحفظه، فحسب الروائي، "يحتاج الإنسان إلى عامين ليتعلم الكلام، و50 عاما ليتعلم الصمت".
لا يقصد هيمنجواي بالصمت السكوت بمعناه السلبي، أي الجمود المرتبط بالطبيعة والدال على الموت، بل الصمت باعتباره مشاركة وتفاعلا، وإعلانا عن وجود حياة. يصبح الصمت بذلك عابرا لحدود اللغة، فاسحا المجال أمام مزيد من المعنى. ما دفع الفرنسي موريس ميرلوبونتي إلى تقديم وجهة نظر حول الصمت، في كتابه "المرئي واللامرئي"، حيث يعد الصمت أساس كل اللغات، "صمتي عند الكلام والاستماع ضروري لي كمشارك فعال في حواري حول العالم".
الصمت فن لا يتقنه كثيرون، فمن كان مبدعا بصمته أصبح مبدعا بكلامه، والجاهل من يعتقد أن الصمت هو عدم المعرفة أو الخوف من المواجهة، بل بالحقيقة أن الصمت هو أساس الحكمة والمعرفة. فالأيرلندي بيرنارد شو يرى أن "الصمت خير الفضائل، لأنك بواسطته تستمع للآخرين، فتعرف عيوبهم، وتخفي عيوبك". وتحدث وليام شكسبير عن مفارقة الصمت والكلام بقوله "هناك كلام لا يقول شيئا، وهناك صمت يقول كل شيء". وفي الأثر نقرأ أن "عثرة القدم أسلم من عثرة اللسان".
يتحول الصمت أو قلة الكلام عند الصوفية إلى ركن ينبغي أن يلتزم به المريد والسالك، فالصمت وجه من أوجه الكلام، وفي أحيان كثيرة يصير له الوقع الأقوى والأثر الأبلغ من كل أنواع الكلام. ينقل اللغوي عبد الملك أبو منصور الثعالبي، في "اللطائف والظرائف"، من حكم نبي الله لقمان، أن "الصمت حكمة وقليل فاعله"، وقيل أيضا "إن الصمت أنفع للناس، والسكون أنفع للطير، لأن الطير إذا نبش قبض وحبِس".
تباين تقدير الحضارات بين احتفاء اليونان بالبراعة في الكلام، والقدرة على إنتاج خطاب مقنع ومؤثر، حتى شاع بينهم قول الفيلسوف سقراط "تكلم حتى أراك"، فالكلام هنا ما يمنح المرء حق الاعتراف بالوجود. مقابل تقديس المصريين القدماء للصمت، جعلوا الكلام مغامرة غير محسوبة العواقب، وصار شعارهم "إن كان الكلام من فضة، يبقى السكوت من ذهب". وتجعل الفلسفة البوذية من الصمت رياضة للذهن، ومصفاة للنفس، ونافذة للتأمل.
حاول شعراء كثر، من عصور مختلفة، ترجمة حكم الصمت في أبيات شعرية، فقد قال زهيز بن أبي سلمى، في ترجمة شعرية لمقولة سقراط، "وكائن ترى من صامت لك معجب/ زيادته أو نقصه في التكلم، لسان الفتى نصف ونصف فؤاده/ فلم يبق إلا صورة اللحم والدم". ونقل عن الإمام الشافعي قوله "وجدت سكوتي متجرا فلزمته/ إذا لم أجد ربحا فلست بخاسر، وما الصمت إلا في الرجال متاجر/ وتاجره يعلو على كل تاجر". وتحدث أبو العتاهية عن بلاغة الصمت، فقال "يخوض أناس في الكلام ليوجزوا/ وللصمت في بعض الأحايين أوجز، إذا كنت عن أن تحسن الصمت عاجزا/ فأنت عن الإبلاغ في القول أعجز".
تختلف وظائف الصمت، بحسب السياقات، فقد يكون فعل احتجاج، وقد يصبح وسيلة مقاومة، فالأديب غسان كنفاني يعد "الصمت صراخا أكثر عمقا، وأكثر لياقة بكرامة الإنسان". وقد يكون الوسيلة الفعالة للتواصل، كما وصف ذلك أمير الشعراء أحمد شوقي، في غزليته "يا جارة الوادي" حين قال "وتعطلت لغة الكلام وخاطبت/ عيني في لغة الهوى عيناك". وتكلم معاصره خليل مطران، عن بلاغة الصمت، "بعض السكوت يفوق كل بلاغة/ في أنفس الفهمين والأرباء، ومن التناهي في الفصاحة تركها/ والوقت وقت الخطبة الخرساء".
وببساطة قد يكون الصمت عودة الفرد إلى ذاته، وإمعان النظر في معنى وجوده، حيث يمارس التأمل والتفكير وحتى الحلم، وينتقل بالنفس إلى عوالم الطبيعة والسجية والطمأنينة والهدوء والصفاء. مفقودات لا وجود لها في المدن، التي وصفها ماكس بيكارد، في مؤلفه "عالم الصمت"، بخزانات الضجيج العملاق. فـ"لم تعد هناك وحدة عالمية للروح والسياسة. لكن توجد وحدة عالمية للضوضاء".
يبقى السؤال: هل عودة المرء إلى نفسه تعني الصمت؟ فالكاتب ألدوس هكلسي يؤكد أن "الصمت ليس فارغا، الصمت مليء بالأجوبة". ما يعدم مع الذات أي فرصة لأن يكون المرء صامتا، حتى إن تحقق الأمر مع الآخرين. قد لا يتكلم الإنسان بصوت عال، لكن في الوقت نفسه يتكلم مع نفسه. "يناقش نفسه داخل رأسه، حتى إن لم يسمعني أحد. يصعب على المرء إيقاف الأصوات التي بداخل رأسه، ما يعني أنه ليس صامتا".
حضر الصمت في فلسفة الألماني مارتن هايدجر، عند تأسيس حواره الوجودي عن حديث الأنا للذات الصامتة مع الآخر للتعبير عن وجود الأنا الحرة الواعية، فالوعي وليد الصمت والتأمل، والكلام وليد الحرية والقدرة على البوح. عمل ماكس بيكار الطبيب السويسري على الكشف عن مركزية الصمت في الحياة، فـ"عندما يتحدث شخصان إلى بعضهما، فإن شخصا ثالثا يكون على الدوام حاضرا، الصمت يصغي".