نعيش اليوم في عالم تتطور فيه التكنولوجيا بسرعة مطردة وتخضع معظم علاقاتنا لسيطرة التقنية، التي تعمل على إيجاد حل إبداعي للمشكلات التي كانت تتسبب في خسائر كبيرة للشركات، فالتقنية قادرة على أن تصل إلى الحل الأمثل مع معادلة التكلفة والوقت وتعظيم العائد. وبفضل الآلات يمكن بناء بيئات عمل مواتية لاستقطاب أفضل العمال المهرة، ولكن بمهارات لا تثبتها الشهادات وقد يكتبها أحدهم بلا اكتراث في السيرة الذاتية، وقد لا يعرف أنها وظائف المستقبل وكل ما يبحث عنه أصحاب المال والمستثمرون.
نحن نشهد اليوم عصرا من الوظائف التي قد لا تكفي معها الشهادة العلمية لضمان الحصول على فرصة عمل، بل يجب أن تدعمها بالمهارات والخبرات، فسوق العمل تتطور بشكل سريع ومتلاحق، وأصبح الطلب على الأشخاص ذوي المهارات يزداد يوما بعد يوم. ولذلك تبحث الشركات على الدوام عن أفضل الموظفين لضمهم إلى فرق العمل فيها، حيث تركز على أن يتمتع هؤلاء الموظفون بمجموعة متكاملة من المهارات والمميزات التي تضمن لهم الجودة في العمل وبالتالي النجاح للمؤسسة.
ومن أهم المهارات التي يتزايد الطلب عليها يوما بعد يوم من قبل أرباب العمل، مهارة العمل الجاد التي تسهم في رفع الإنتاجية ودفع الشركة إلى الأمام. لقد أصبح الابتكار التكنولوجي جزءا من حياتنا، ومنحتنا هذه التكنولوجيا القدرة على تبادل قدر كبير من البيانات والمعلومات بسرعة وبتكلفة منخفضة، وعززت من نمو الاقتصاد الرقمي ومعه منصات العمل الرقمية، حيث يتم تقديم الخدمات والسلع بطرق أرخص وأكثر ملاءمة، مع سلاسل إمداد جديدة تماما، ويوفر هذا التحول فرصا جديدة للعمل وللعمال، بمن في ذلك أولئك الذين كانوا خارج أسواق العمل في فترات سابقة، لكن هذا الاتجاه يفرض تحولات عميقة ليس فقط في تنظيم المؤسسات وعمليات العمل ولكن حتى في شكل العلاقة التعاقدية بين العمال والشركات أيضا.
وفي هذا الموضوع يؤكد تقرير لمنظمة العمل الدولية ILO أنه بقدر ما يعمل التقدم التكنولوجي والذكاء الاصطناعي والأتمتة والروبوتات على إنتاج وظائف جديدة، بقدر ما يصعب إعادة توجيه مهارات اليوم لتواكب متطلبات وظائف الغد، لدرجة أن تقرير المنظمة الدولية يرى أن المهارات التي نكتسبها اليوم قد تصبح غير مناسبة لمدة طويلة، وأن الانتقال من المدرسة إلى العمل سيزداد صعوبة، وسيحتاج الشباب إلى المساعدة في هذا الاتجاه، كما سيحتاج جميع العمال إلى الدعم لمجاراة التحولات في سوق العمل على مدار حياتهم، وتتمحور توصيات منظمة العمل الدولية لمواجهة هذه التغيرات السريعة في التركيز على مبدأ التعلم مدى الحياة بما يمكن الناس من اكتساب مهارات جديدة بسرعة وإعادة صقل المهارات، وعلى الحكومات والمؤسسات التعليمية تكثيف الاستثمارات في المؤسسات والسياسات والاستراتيجيات التي ستدعم الناس خلال تحولات العمل في المستقبل.
وساعدت جائحة COVID-19 في تسارع التحول نحو المنصات الرقمية والابتكارات التكنولوجية وكانت النتيجة هي زيادة التجارة الإلكترونية والخدمات الإلكترونية والعمل المستقل عبر الإنترنت، ونشرت منظمة العمل الدولية تقريرا على موقعها ويستند إلى استطلاعات ومقابلات مع 12 ألف عامل في 100 دولة، وشركات وجمعية عمال، حيث يرصد التقرير كفاح العمال للعثور على عمل كاف بأجر جيد لكسب دخل لائق، ما يؤدي إلى خطر فقر العاملين مع عدم قدرة عديد منهم على الوصول إلى الحماية الاجتماعية، ويعد التقرير أن توافر منصات مفتوحة المصدر لتطبيقات البرمجيات يمكن الوصول إليها من قبل الشركات دون تكلفة ويتزايد الاعتراف بهذه المنصات والبرامج مفتوحة المصدر كأدوات عمل مع تعرض القوى العاملة العالمية لضغوط مستمرة من أجل اكتساب المهارات وصقلها، وهناك إجماع واسع على أن أصحاب العمل يحتاجون إلى أشخاص يتمتعون بمستويات أعلى من المهارة، ومع تزايد هذه المنصات والابتكارات الرقمية يصبح نقص المعرفة معضلة يومية، فتشير دراسات مختلفة إلى أن نحو 11.8 مليون عامل في المملكة المتحدة يفتقرون إلى المهارات الرقمية الأساسية، بما يؤدي ذلك إلى صعوبات في إنجاز العمل وبما يؤثر في الشركة بأكملها، وقد دعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى ثقافة التعلم مدى الحياة التي تعتمد جزئيا على قدرة الناس على "تعلم كيفية التعلم" وإشراك "قدرتهم البشرية على الإبداع".
وأصبح الطلب على المهارات واقعا ولا بد للخريجين الجدد أو العمال الذين فقدوا وظائفهم بسبب الأتمتة تأكيد امتلاكهم المهارات المطلوبة لأداء مهام الوظائف المتجددة، وبغير ذلك فإن فرصهم للعودة إلى أسواق العمل عند مستويات أجور مقبولة ستتضاءل تدريجيا، فلا بد اليوم من امتلاك مزيد من المهارات التي توصف بأنها مهارات مشتركة عبر المهن المختلفة كما أشرنا، ويجب على مقدمي خدمات التعليم والتدريب تعديل مناهجهم وتوفير الدورات التدريبية للتأكد من أن المتعلمين يكتسبون المعرفة والمهارات أيضا، فالمعرفة بذاتها لم تعد تمكنهم من تلبية الطلب وهذا التحول في العملية التعليمية يتطلب تدريس المهارات بأنواعها خاصة الرقمية المتقدمة التي تستند إلى التفاعل والتواصل والاستخدام الفعال للمنصات المفتوحة، وتحليل البيانات وفهم اتجاهاتها وأساليبها.
