Author

حيرة الأسواق وآليات التوازن

|
تواجه الأسواق المالية أياما صعبة في العالم أجمع، مع تراجع قوي وحاد في المؤشرات، فقد انخفض مؤشر داو جونز في أطول سلسلة خسائر أسبوعية منذ عام 1923، وخسر أكثر من 10 في المائة من أعلى قيمة وصل إليها، وشهدت العملات المشفرة أسوأ تجربة لها منذ ظهورها على منصات الاستثمار العالمية، ولم يكن هذا التراجع الذي أصاب الأسواق العالمية مفاجئا، فمنذ فترة ليست بالقصيرة والمؤسسات الدولية وكبار المحللين الاقتصاديين يبدون قلقا واضحا بشأن التأثير السلبي القوي لرفع أسعار الفائدة في أسعار الأصول، وكان الجميع يعرف ذلك، وبدت الصورة واضحة من هذا الوضع، وقدمت "الاقتصادية" عديدا من التحليلات والافتتاحيات التي تؤكد بشكل واضح أنه لم يكن ينقصنا أي من الإشارات التحذيرية لما يحدث الآن في الأسواق المالية، وهناك رصيد من التجارب يفيد بأن السياسات المالية المتساهلة بشكل مفرط تؤدي إلى التضخم، وأن أسعار الفائدة الحقيقية المنخفضة للغاية تؤدي إلى سوء تخصيص رأس المال، وعندما تبدأ البنوك في معالجة التضخم فعادة تقوم بتصحيح سعر الفائدة كخطوة أولى، لتبدأ موجة من التصحيح في أسواق رأس المال ومن ثم تصحيح اتجاهات الاقتصاد في تخصيص الموارد ككل، وكان انخفاض سعر الفائدة إحدى السمات المميزة للعقد الأخير بسبب قضايا مختلفة بدأت منذ الأزمة المالية العالمية، وتبع ذلك توسع في التيسير الكمي الذي امتد ليشمل العالم مع انتشار الجائحة الصحية، فالانخفاض المستمر والكبير في أسعار الفائدة الحقيقية عم جميع أنحاء العالم.
ورغم أن انخفاض أسعار الفائدة يحفز النشاط الاقتصادي في المدى القصير، إلا أن معدلات الفائدة المنخفضة قد تعزز انتشار الأنشطة الاقتصادية غير المنتجة، ما يفاقم مشكلة سوء تخصيص رأس المال والموارد التي تصل إلى مشاريع ومنتجات غير ذات جدوى اقتصاديا واجتماعيا، وقد يكون هذا التأثير قويا بما يكفي لعرقلة النشاط الاقتصادي والنمو، كما يسبب خفض سعر الفائدة والسياسات المالية غير الحصيفة توسعا في التسعير المبالغ فيه لعدد واسع من الأصول، وهذا ما حدث خلال الفترات التي انخفضت فيها أسعار الفائدة وأدت إلى سوء تخصيص رأس المال، كما أشرنا ليصل إلى مشاريع غير منتجة، وشركات لا تعد بتحقيق أرباح، وبينما السياسات المالية المتساهلة تؤدي إلى التضخم بما يتسبب في وضع اقتصادي غير متوازن.
ومن الملاحظ دوما أن التشديد في السياسات المالية ورفع أسعار الفائدة من أجل السيطرة على التضخم قد لا يقودان فورا إلى التوازن المنشود، بل إن التشديد المفرط يضر بالنمو الاقتصادي، كما أن تصحيح سعر الفائدة يكشف النقاب عن مواطن الضعف في تخصيص رأس المال الذي تراكم، ما يؤدي إلى تراجع حاد في أسعار الأصول. وهذا ما حدث اليوم فعليا فقد تسببت مشكلة سوء التخصيص في جعل تأثير رفع أسعار الفائدة مؤلما في تلك الأسهم ذات الأرباح غير المؤكدة التي حققت ارتفاعات خلال الجائحة، فهذا النوع من الأصول شديد الحساسية جدا تجاه تحركات أسعار الفائدة.
وكما أشار الملياردير وارين بافيت إلى أن سوق الأسهم الأمريكية لا يزال مبالغا في قيمتها بشكل غير سار، وهذا أكدته البيانات في أسواق الأسهم، فلقد كان التداول في السوق الأمريكية أعلى بنسبة بين 30 و50 في المائة من متوسط الـ15 عاما، وحالة مثل هذه يصفها رئيس قسم الأبحاث والتحليلات من شركة شرودرز بأنها تمثل خطرا واضحا ومحدقا على الأسواق، وفي هذا السياق فإن ما يحدث في الأسواق المالية اليوم كان في الصورة تماما، وكان متوقعا بطريقة أو بأخرى، لكن يبقى السؤال حول القرار بشأن الاحتفاظ بالأصول الآن أو بيعها.
ومن حسن الحظ أن هناك عديدا من الدراسات يمكن أن تلهمنا في مثل هذه الظروف الصعبة، فقد أشار تقرير لـ"الاقتصادية" في هذا الخصوص، إلى المدة التي استمرت فيها الخسائر أثناء انهيارات الأسواق سابقا، حيث تشير إلى حدوث انخفاضات بنسبة 10 إلى 20 في المائة 29 مرة (مرة كل 2.5 عام تقريبا منذ عام 1946)، و20 - 40 في المائة، تسع مرات (مرة كل 8.5 عام تقريبا) و40 في المائة أو أكثر ثلاث مرات (كل 25 عاما)، وارتبط معظم التراجعات التي تجاوزت 20 في المائة بحالات الركود (كانت هناك 12 حالة منذ عام 1946)، فالاحتفاظ بالأسهم بعد أول انخفاض 25 في المائة في الأسواق في أعوام 1970 و1974 و2001 و2008، يعني أن المدة التي استمرت فيها الخسائر ستكون بين عامين وأربعة أعوام، بينما قرار سحب أموالك بعد انخفاض الأسهم 25 في المائة، يعني أن المدة التي استمرت فيها الخسائر قد تصل إلى خمسة أعوام وثلاثة أشهر بعد انهيار 1974، وإلى رقم كبير بالفعل بعد 2001، كما أن نموذج السبعينيات يعد أقرب نموذج للمقارنة.
ونلاحظ أن هناك تحفظا بشدة بشأن تعويض خسائر الاستثمار في العملات المشفرة، إذ لا يوجد نموذج لآلية عملها، ولا يوجد لها تاريخ يمكن الرجوع إليه. لعل هذا هو معنى المغامرة عند الاستثمار في العملات المشفرة.
ما يمكننا تأكيده أن ما يحدث الآن كان متوقعا، ورغم شدة التراجع الذي طال معظم الأسواق المالية، فإن الأمل معقود على قدرة البنوك المركزية على الوصول إلى أسعار فائدة قريبة تكبح التضخم، لكنها لا تتسبب في الركود الطويل، فالتوازن المنشود يعني العودة السريعة للمسار، حتى الوصول إلى تلك النقطة. والتجارب السابقة تؤكد أن العودة بالأسعار ممكنة ولها شواهدها التاريخية، لكن ذلك مرتبط بالقرارات التي نتخذها اليوم سواء بالاحتفاظ بالأصول أو بيعها.
إنشرها