Author

الاقتصاد العالمي والعوامل المتفاقمة

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"الأمطار الغزيرة آتية في الطريق"
بوب ديلان، شاعر ومغن أمريكي، حائز "نوبل" للآداب
المتفائلون بمستقبل الاقتصاد العالمي باتوا يلتزمون الصمت، حتى إن بعضهم يركز على أزمات غيره، ويمر سريعا على أزماته التي صارت محورا أساسيا لمشهد يومي يزداد بؤسا. المتشائمون لا يرون مخرجا سريعا عريضا لأزمات الاقتصاد العالمي ككل، على الأقل في الفترة الممتدة إلى منتصف العقد الحالي. وهؤلاء عادة ما توجه إليهم الاتهامات بأنهم بكائيون في كل الظروف. لكن الأمر لا علاقة له بالتشاؤم أو التفاؤل، بل بالحقائق الموجودة على الأرض، والمتغيرات والتفاعلات التي لا تتوقف. صحيح أن بعض المشرعين، خصوصا على الساحة الأوروبية، يعتقدون أن الأزمة العالمية الحالية ستمر ومعها الأضرار المستحقة، لكن الصحيح أيضا أن أحدا لا يمكنه تحديد زمن لها، فضلا عن زخم خسائرها، لأن العوامل المفاقمة لها تتوالد، والسيطرة على مفاتيحها صارت تتبعثر هنا وهناك.
عندما يتصدر مصرفيون رئيسون "نافخو الأبواق" التحذيرية، لا بد أن يتم أخذ المسألة التي يطرحونها على محمل الجد الخالص. فهم عادة يشعرون ببدء غرق السفينة قبل غيرهم من الركاب الآخرين. وبصرف النظر عن أنهم عادة ما يكونون جزءا من مسببات الأزمات الاقتصادية، عبر ممارسة "الوهم المالي"، إن جاز القول، إلا أنهم ينتسبون حاليا لمجموعة المتشائمين، إلى درجة أن حذر جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك "جي بي مورجان تشايس" مما أسماه "إعصارا اقتصاديا" ناتجا عن الحرب في أوكرانيا، وارتفاع ضغوط التضخم، وزيادة أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي "البنك المركزي". وخطوات هذا الأخير خصوصا، ترسم المعالم المتجددة للمشهد الاقتصادي العالمي العام، من فرط تأثير مستويات الفائدة الأمريكية في السوق المالية الدولية.
ليس واضحا بعد شكل هذه العاصفة التي تحدث عنها المصرفي الأمريكي، لكنها في النهاية ستؤثر في الساحة العالمية ليس لهذا العام ولا للعام المقبل، بل ربما حتى العام الأخير من العقد الحالي. ويعزز هذا الاعتقاد استسلام الرئيس الأمريكي جو بايدن، لموجة التضخم الكبرى التي لم تشهد لها البلاد مثيلا منذ 40 عاما. فالرجل اعترف أخيرا "سنتعايش مع التضخم لفترة من الوقت". ورغم أن جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية تستبعد دخول بلادها في حالة ركود، إلا أن المؤشرات العامة لا تتناغم مع رؤيتها هذه، على الأقل في المرحلة المتفاعلة الراهنة. والمشهد ليس أفضل على الساحة الأوروبية، التي حذرت يلين نفسها من المخاطر الاقتصادية هناك بسبب الحرب في أوكرانيا، وبالطبع تبعات جائحة كورونا. ويبدو أن الأوروبيين بالفعل هم أكثر عرضة للمخاطر من وصول الركود إليهم، ما يفسر عمليا مواصلة البنك المركزي الأوروبي سياسة التيسير المالي، رغم أنه أعلن أنه سيبدأ وقف شراء السندات هذا الصيف. ففي اجتماعه الأخير، أبقى البنك سعر الفائدة عند حدودها الصفرية، على أمل الحفاظ على النمو بصرف النظر عن مستواه إلى أطول فترة ممكنة. فالخوف في أوروبا وغيرها، لم يعد محصورا في استمرار هبوط مستويات النمو، بل بات يشمل إمكانية الدخول في الركود التضخمي، في وقت لم تنته فيه آثار الانكماش التي تركتها كورونا على الساحة ككل. وهذا ينطبق على الولايات المتحدة، بصرف النظر عن قوة اقتصادها، أو عن الآثار الإيجابية لحزم الدعم الهائلة التي جلبها بايدن معه إلى البلاد بعد وصوله إلى البيت الأبيض.
عناصر "الدراما" الاقتصادية تتجمع هنا وهناك. فالعيش لمدة طويلة مع التضخم، يعني ببساطة تفاقم الأزمات الاقتصادية، وارتفاع نسب البطالة، بل اضطرار الأسر حتى في الدول المتقدمة إلى التخلي عن بعض الأساسيات، إما لنقص إمداداتها، أو لارتفاع أسعارها. ففي بريطانيا "مثلا" أظهرت إحصائية محلية، أن نسبة من الأسر تخلت عن وجبة غذائية من وجباتها اليومية بفعل ارتفاع الأسعار إلى مستويات لم تعد تحتمل. وهذا ما يفسر قيام بعض الحكومات في أوروبا بمنح مواطنيها "كوبونات" الإعاشة، المشابهة لتلك التي كانت توزع في أوقات الحروب والأزمات الكبرى. ومن هنا، سيكون "الإعصار الاقتصادي" إذا ما وقع، شاملا. أو لنقل "كوكتيل" من النمو المنخفض والبطالة المرتفعة والتضخم العالي جدا، والفائدة "الكابحة" للحراك برمته، إلى جانب طبعا الديون، خصوصا في الدول التي تواجه أصلا مشكلات بسببها قبل الأزمة الحالية بأعوام عديدة.
ليس مهما كثيرا من سيكون أكثر عرضة للركود: الولايات المتحدة أم أوروبا وبريطانيا، أم كندا أم أستراليا، أم الصين أم اليابان أم غيرها. لكن المهم أن أي ركود سيحدث في الأسواق الرئيسة، سيولد أزمة اقتصادية عالمية، لتضيف بؤسا للمشهد العام، يذكرنا بذاك الذي جلبته الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008. وبالمناسبة بعض آثار هذه الأخيرة لا تزال حاضرة، بصرف النظر عن شدتها. وفي المحصلة، لا شيء يمكن أن يجنب العالم تفاقم "الدراما" هذه، سوى التعاون وإن كان في حدوده الدنيا. لكن المؤشرات كلها تدل على أنه سيبقى بعيد المنال، في مواجهة عسكرية لم يتوقع أحد أنها ستحدث في أوروبا التي أنتجت حربين عالميتين في ثلاثة عقود فقط.
إنشرها