Author

المطالبة بمزيد من المنافسة بين صناع السوق

|
مختص بالأسواق المالية والاقتصاد
تختلف أسواق الأسهم الأمريكية في طريقة عملها عن كثير من الأسواق، بما في ذلك سوق الأسهم السعودية، في أنها تعد أسواق صناع سوق وليست أسواقا تقودها أوامر البائعين والمشترين، كما في السوق السعودية. هذا الاختلاف في هيكلية الأسواق الأمريكية رغم ما تتمتع به من ميزات وفوائد كبيرة، لا يخلو من الانتقادات، ولا سيما أن الانتقاد هذه المرة جاء من رئيس هيئة الأسواق والأوراق الأمريكية.
ما الخلل الذي يراه رئيس الهيئة ويطالب بتصحيحه في الأسواق الأمريكية؟ وكيف تختلف السوق السعودية عن أسواق صناع السوق؟
كما هو معروف للمتعاملين في السوق السعودية، وفق طريقة عملها، أن المتعاملين يبيعون ويشترون من بعضهم بعضا دون تدخل أي أطراف أخرى. فعندما يقوم المتداول بإدخال أمر شراء بسعر محدد وكمية محددة، فإن هذا الأمر يعرض في سجل الأوامر على الفور ويمكن رؤيته من قبل أي شخص لديه اشتراك في خدمة سجل الأوامر، أو جداول العرض والطلب. هذا الهيكل من الأسواق يسمى سوق الأوامر البحتة، والعكس منه تماما ما يعرف بسوق صناع السوق الذي ينشر فقط أوامر صناع السوق المجمعة، وهي الأوامر التي يتلقاها كل صانع سوق من الوسطاء المرتبطين به.
منذ القدم وأسواق الأسهم الأمريكية تعمل بآلية صناع السوق، وهي مؤسسات مالية تتولى عملية توفير السيولة لكل سهم داخل في اختصاصهم، والفائدة من ذلك أنهم يمدون السوق بالسيولة طوال فترة التداول حيث يدخلون عروض بيع وطلبات شراء باستمرار لمصلحة حساباتهم الخاصة. هذه الآلية كفيلة بتحقيق أرباح كبيرة لهذه الشركات بحكم تمركزهم بين البائعين والمشترين واستفادتهم من سيل الأوامر التي تنهال عليهم بأسعار متفاوتة وكميات متنوعة وبخاصية السعر المحدد أو بسعر السوق، فيحصل غالبا أن يقوموا بتنفيذ هذه العمليات بربح خال تقريبا من المخاطرة. على سبيل المثال، بلغت مبيعات "سيتاديل المالية"، أحد أكبر صناع السوق في أمريكا 7.6 مليار دولار عام 2021.
ما الأمر الذي أزعج رئيس هيئة الأوراق والأسواق الأمريكية فيما يخص صناع السوق؟
مصدر الإشكالية في طريقة عمل صناع السوق هي دفعهم عمولات كبيرة لشركات الوساطة مقابل توجيه أوامر عملاء شركات الوساطة إلى صناع السوق، والسبب أن قدرة صانع السوق على تحقيق أرباح كبيرة تعتمد على حجم العمليات التي تتم من خلاله ومن خلالها يستطيع ممارسة أساليب متنوعة من المراجحة "آربيتراج" إلى جانب استباق أوامر العملاء وغيرها من الطرق التي تحقق أرباحا شبه خالية من المخاطرة.
هذه العمليات المالية بين الوسطاء وصناع السوق نظامية وتمارس منذ عشرات الأعوام، عدا أنهم منذ عدة أعوام أصبحوا ملزمين بالإفصاح عن طبيعة العلاقة بينهم ومقدار المدفوعات التي يتلقاها وسطاء السوق. هذه العلاقة بدأت تشد الانتباه وتثير تساؤلات كثيرة عن مدى مصداقية الأسواق وجودة الأسعار التي يتم التعامل بها، وازدادت تلك المخاوف بعد إطلاق خدمات الوساطة المجانية، التي من خلالها لا يدفع المتداول أي عمولة مقابل ما يتم بيعه أو شراؤه من أسهم، بغض النظر عن عددها. وكان أول من أطلق هذه الميزة على نطاق واسع وسيط "روبن هود" الذي قام قبل عدة أعوام بقلب خدمة الوساطة رأسا على عقب، حيث أزال اشتراط حد معين لفتح الحساب وألغى العمولة بالكامل.
أمام ثورة هذا الوسيط الجديد قدمت شركات الوساطة الكبرى خدمة العمولة المجانية، والآن تقريبا جميع الوسطاء الرئيسين يقدمون الخدمة مجانا ويعوضون ذلك بتقديم خدمات إضافية للعملاء باشتراكات، مثل الحصول على التقارير والأبحاث، إلى جانب مد العملاء بإمكانية الاقتراض يوميا من خلال حساب الهامش، والأهم من ذلك كله أنهم يتلقون عمولات معتبرة من صناع السوق، وهو الأمر الذي لا يخلو من تضارب المصالح.
هذه الإشكالية لا توجد في أسواق الأوامر مثل السوق السعودية، لعدم وجود صناع سوق، لكن رغم ذلك تعد تكلفة التداول في الأسواق الأمريكية أقل بكثير منها في السوق السعودية. بمعنى آخر: صحيح قد يكون هناك تضارب مصالح حين يقوم الوسيط الأمريكي بتوجيه أوامر العملاء لوسيط معين، لا لكونه صاحب أفضل سعر، بل بحكم أن العلاقة المالية تجبر الوسيط على القيام بذلك، ورغم ذلك لا تزال تكلفة الخدمة متدنية جدا.
من المهم معرفة أن صانع السوق ملزم بتقديم أسعار أفضل من الأسعار الرسمية وقت تنفيذ العملية، والمقصود بالأسعار الرسمية هي الأسعار التي تقوم بحسابها ونشرها شركات مختصة بهذا الجانب، وهي أسعار لأفضل عرض وطلب بين جميع الأسواق التي يتم تداول السهم بها. هذا يعني أن العميل سيحصل على أسعار متوافقة مع الأسعار الرسمية، إلا أن هناك صعوبات في مطابقة الأسعار التي يقوم بها صانع السوق مع الأسعار الرسمية بسبب سرعة التداول وكميات العمليات. لذا، رغم التزام صانع السوق بتقديم أفضل الأسعار، أي: الأسعار المساوية للأسعار الرسمية أو أفضل منها، إلا أنه ليس ملزما بتقديم أسعار أفضل من صانع سوق آخر، وهنا مصدر المشكلة التي يتحدث عنها رئيس الهيئة. إضافة إلى ذلك، لا ينطبق اشتراط الالتزام بأفضل الأسعار على الأوامر التي كمياتها أقل من 100 سهم، ما يعني أن كثيرا من تداولات صغار المستثمرين قد تكون عرضة لاستغلال بعض صناع السوق.
المشكلة مرة أخرى أن صناع السوق ملتزمون بتقديم أسعار أفضل من الأسعار الرسمية، لكنهم في الوقت نفسه يتنافسون فيما بينهم، وبالتالي ليس من مصلحة العميل توجيه الوسيط أوامره لصانع سوق معين رغم وجود سعر أفضل لدى صانع سوق آخر. الحل الذي يقترحه رئيس الهيئة هو أن تكون هناك منافسة علنية فورية من خلال مزادات خاصة بين صناع السوق أنفسهم، وإن تم ذلك فلن يكون هناك أي حافز لدى وسطاء الأسهم لتفضيل صانع سوق عن آخر.
ما يدعو إلى التعجب والتندر في الوقت ذاته هو أنه رغم جودة الخدمات التي تقدم من قبل الوسطاء الأمريكيين، ومن مجانية التداول، وأن العمولات الخاصة التي يتحصلون عليها من صناع السوق تتم بعد حصول العميل على أفضل الأسعار المتاحة على المستوى الوطني، رغم ذلك كله لا تزال هيئة الأوراق والأسواق المالية ترى أن هناك حاجة إلى مزيد من العدالة للمستثمرين.
إنشرها