Author

أزمة غذاء في الطريق

|
كاتب اقتصادي [email protected]
"العالم قد يواجه نقص إمدادات الغذاء عالميا في الأشهر المقبلة"
أنطونيو جوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة
لم يعد العالم يستطيع تحمل الارتباك الحاصل على صعيد إمدادات الحبوب، من جراء الحرب الدائرة في أوكرانيا. المسألة لا تبدو مؤقتة، لأن إمكانية طول أمد هذه الحرب حاضر وبقوة رغم المواقف الغربية ولا سيما الأمريكية منها، بأن حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي يقف إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا، لا يستهدف هزيمة موسكو، ولا تغيير نظام الحكم فيها. بل هناك من يحذر من أن هزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيها كثير من المخاطر على العالم، الذي شهد للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حالة من الرعب النووي. فاستمرار هذه الحرب، يعني ببساطة تفاقم أزمة الغذاء العالمية، ودخولها مراحل يصعب السيطرة عليها، ولا سيما في ظل ما يتمتع به كل من أوكرانيا وروسيا من قدرات إنتاجية وتصديرية لكل الحبوب بأنواعها، وزيوت الطعام، حتى السماد الزراعي.
وبصرف النظر عن الاتهامات المتبادلة بين موسكو وكييف حول حجز كميات هائلة من الحبوب في الموانئ الأوكرانية خصوصا، فقد ثبت أن الأمن الغذائي العالمي لا يزال هشا، رغم الإنجازات التي تحققت في العقود القليلة الماضية، عبر المشاريع الإنمائية للأمم المتحدة، في المناطق الفقيرة وتلك التي توصف بالأشد فقرا. بل ظهر أيضا أن وضع الإمدادات الغذائية ليس قويا بما يكفي حتى في الدول المتقدمة، التي تواجه هي الأخرى نقصا فيها من جراء الحرب في أوكرانيا، ومن تداعيات جائحة كورونا التي عمقت اضطرابا صار طويلا بالفعل في ساحة سلاسل التوريد. وهذا ما يفسر ارتفاع أسعار المواد الغذائية في كل الدول دون استثناء، وهو ارتفاع مدعوم بزيادة متصاعدة لأسعار الطاقة، بفعل تداعيات الحرب المشار إليها.
أزمة الحبوب تتعمق وبالتالي فاقمت تلقائيا أزمة الغذاء، ما دفع الجهات الدولية المختلفة إلى التحرك ليس من أجل تأمين إمدادات حبوب مستدامة، بل كي تسمح روسيا بفك حجز ملايين الأطنان من الحبوب الأوكرانية الموجودة منذ أشهر في موانئ البلاد الواقعة على البحر الأسود. فالخطر بدأ يظهر بصورة أساسية في الدول الإفريقية وعدد من الدول العربية، ما دفع محمد البرادعي نائب الرئيس المصري الأسبق والمدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية لطرح ضرورة أن يقوم وفد من إفريقيا والدول العربية بزيارة لكل من روسيا وأوكرانيا، لضمان فتح الموانئ في الدولتين لتصدير المواد الغذائية إلى العرب والأفارقة على الأقل. لماذا؟ لأن هذه الدول تعتمد بصورة أساسية في إمداداتها من الحبوب على هاتين الدولتين اللتين تنتجان أكثر من 30 في المائة من الحبوب وزيوت الطعام من إجمالي الإنتاج العالمي.
وبصرف النظر عن هذا الجانب، إلا أن الأزمة عالمية أكثر منها إقليمية، حتى إن المؤسسات الدولية المعنية بقضايا الغذاء تحذر من مجاعة عالمية قد تستمر أعواما بسبب الحرب في أوكرانيا. والمصيبة، أن بدائل الحبوب الآتية من الدولتين المتحاربتين ليست متوافرة، حتى في حال تم التحرك الفوري لإنتاج كميات تعويضية للحبوب في مناطق أخرى من العالم، فإن الأمر يتطلب أعواما من العمل والتنظيم. وفي ظل المحاولات التي تقوم بها الجهات الدولية المعنية، لتجنب أزمة غذاء عالمية أكثر عمقا من تلك التي يشهدها العالم حاليا، فإن الطرق البديلة لتصدير الحبوب من أوكرانيا بعيدا عن الموانئ الخاضعة للسيطرة الروسية عمليا لن تكون كافية، بحسب تأكيدات المسؤولين الأوكرانيين. وهذه الطرق لن تغطي أساسا إلا 20 في المائة، ما يمكن القيام به عبر هذه الموانئ.
من الواضح أن مسألة إمدادات الحبوب خصوصا الأوكرانية منها، صارت جزءا من مشهد الحرب بين موسكو وكييف، في حين فشلت كل المحاولات الدولية لإقناع فلاديمير بوتين بتخفيف قبضته على صوامع ومخازن الحبوب. فالمسألة لا تتعلق فقط بالطرق الآمنة غير المتوافرة حاليا لإمدادات الحبوب، بل بإنتاجها في مرحلة لاحقة، في ظل مواجهة عسكرية على نطاق واسع. فأعداد النازحين واللاجئين الأوكرانيين التي فاقمت عشرة ملايين نسمة، لم توجد أزمة إنسانية متفاقمة فحسب، بل أوجدت معها أزمة نقص الإنتاج الزراعي وغيره. وفي الـ 100 يوم الأولى للحرب لم يستطع المزارعون الذين قرروا البقاء في مناطق أن يقوموا بأعمال الحصاد، لنقص اليد العاملة المساعدة، ولغياب الأمان في مناطقهم، خصوصا تلك التي تقع على خطوط التماس العريضة.
لم يعد مفيدا التحذير من أزمة غذاء عالمية، أو حتى من مجاعة يمكن أن تظهر حقا بحلول نهاية العام الجاري. وليس أمام هذا العالم إلا الوصول إلى حلول وسط لتوفير الإمدادات الطبيعية من الحبوب وزيوت الطعام والأسمدة من دولتين تشكلان محورين أساسيين في ميدان الغذاء. فأوكرانيا مثلا كانت توصف بأنها سلة خبز عالمية، بينما لا تستطيع الآن أن تصدر منتجاتها من القمح، في الوقت الذي لا يمكن لروسيا الغنية جدا بالحبوب والأكثر تصديرا لها، أن تسد نقص الإمدادات الأوكرانية. ويبدو واضحا أن الأبواب المفتوحة التي تركها الغرب مع بوتين، لم توفر أي نتيجة عملية لا لإنهاء الحرب ولا لضمان مرور الحبوب الأوكرانية إلى العالم.
إنشرها